عبد الاله بلقزيز

يسترعي انتباه الباحث في الفكر القومي العربي التوقف المديد لحركة إنتاج الأفكار الكبرى داخل هذا الفكر في العقود الأخيرة، وتراجع المنحى التنظيري في ما يكتب منذ فترة في مسائل الأمة والقومية والوحدة . تعود آخر النصوص الكبرى ذات القيمة الفكرية والتنظيرية إلى بدايات عقد الثمانينات من القرن الماضي، ولا نكاد نجد بعدها إلا عدداً محدوداً من المقالات ينطبق عليه وصف المقالات النظرية . ومع أن بعضاً من المراجعات ldquo;الفكريةrdquo; ليقينيات الفكر القومي جرى، في العشرين عاماً الأخيرة، ولو على نطاق محدود، فإن أكثره افتقر إلى البناء النظري ولم يذهب بعيداً في التحليل المعرفي للمفاهيم .

هل لهذا التوقف علاقة ما بإشباع نظري حققه الفكر القومي العربي فاقتضى الانتقال من المتون الكبرى إلى الشروح والمختصرات، على نحو ما نعاين اليوم؟

لا يجوز اعتقاد ذلك على أي نحو، فالمسائل التي تفرض نفسها على الفكر القومي الآن أكثر بكثير، وأعقد بكثير، من تلك التي كانت تفرض نفسها عليه قبل ثلاثين أو خمسين عاماً، والحاجة إلى مقاربتها وتكوين أجوبة فكرية حول معضلاتها مما تشتد اليوم وتفرض نفسها على العقل القومي . ثم إن فكراً ما لا يمكن أن يستكين إلى فكرة الإشباع أو استنفاذ الدور إلا متى كان فكراً متحجراً ودوغمائياً، ولسنا نحسب الفكر القومي من هذه الطينة .

هل التوقف عن الإنتاج، إذن، علامة على أزمة تستبد بنظام اشتغال الفكر القومي؟

هذا هو الأرجح، والأكثر رجحاناً أنها أزمة ترد إلى الفكر نفسه: فرضياته ومفاهيمه، لا إلى الواقع الاجتماعي والسياسي، أو قل إنها لا ترد إلى هذا الواقع إلا من حيث عجز الفكر القومي عن تمثل حقائقه ومعطياته ومتغيراته تمثلاً موضوعياً صحيحاً .

ولا يعني التوقف عن الإنتاج النظري أن جيل المفكرين القوميين توقف عن التفكير بالموت أو الشيخوخة ولم يعقبه جيل فكري جديد يستأنف الدور الفكري عينه، وإنما هو يفصح عن أزمة فراغ في الرؤية، إذ ما عاد في وسع من يكتبون اليوم أن يقدموا جديداً إلى التصورات التي أنتجها الفكر القومي سابقاً، أو ما عاد لهم ما يكتبونه تطويراً واغناء ومراجعة . ثم إنهم يأبون لأنفسهم وهذا جيد أن يكتفوا من الموضوع بترديد ما قيل في مسائل الأمة والقومية والوحدة، تاركين لغيرهم من الشراح أن يقوموا بذلك في أوساطهم الحزبية والاجتماعية، مؤثرين الصمت .

من أين منشأ الأزمة هذه؟

من المنظومات الفكرية المغلقة نفسها التي شيدها الوعي القومي العربي وتأبت عن التطوير والمراجعة . فهي تقوم على يقينيات أشبه ما تكون بالعقدية، ينظر إليها وكأنها حقائق مطلقة أو بهذه المثابة . ما هو في حكم الفرضيات فيها لا يرى إليه كفرضيات عند من وضعوها، وإنما كمقدمات يقينية يقوم عليها ldquo;التحليلrdquo;، بل هي حقائق أولى ينطلق منها لإثباتها، ولا وظيفة ل ldquo;التحليلrdquo; سوى البرهنة عليها . في حلقة مفرغة يدور التفكير القومي: الانطلاق من يقينيات للعودة إليها .

هل كانت اللغة مجرد فرضية في تفكير ساطع الحصري مثلاً وهو يتناول مسألة تكوين الأمم وعوامل ذلك التكوين، أم ارتفعت نصاباً إلى مستوى العقيدة التي لا تقبل مساءلة؟ هل كانت فكرة الإقليم القاعدة عند نديم البيطار مجرد فرضية للبناء النظري أم فكرة يقينية تأسيسية تخترق النص من ldquo;المقدماتrdquo; إلى نتائج التحليل؟ هل يتماسك المعمار الفكري الذي أقامه هذان المفكران القوميان الكبيران إن حولنا اليقيني إلى فرضي؟

لم يكن انغلاق هذه المنظومات على يقينياتها المطلقة ليسمح بتطوير لها من الداخل، بمراجعة عميقة لمقدماتها في ضوء تراكمات المعرفة وحقائق التحول التاريخي والاجتماعي .

لذلك بدت مأزومة حين امتحنتها التطورات التي أعقبت انحسار المد القومي بعد حرب ،67 وبدا أصحابها ممن عاشوا لحظة الانحسار ذاهلين أمام متغيرات وضعت أفكارهم أمام حال من الأزمة لا يملكون الرد عليها إلا من طريق مراجعات عميقة لم يجرؤوا على الخوض فيها مخافة الاتيان على معمار فكري شيدوه لعقود .

يملك المرء أن يلتمس عذراً للحصري وزريق والبيطار وسيف الدولة في عدم الإقدام على مثل تلك المراجعة، فلقد صاغوا أطروحاتهم في ظروف تاريخية وسياسية تبررها، وكانت مراجعتها في مقام الايحاء بالتراجع عنها . أما الذين لا يمكن التماس الأعذار لهم، فهم من أعقب هؤلاء من المثقفين القوميين المعاصرين ممن دعتهم الضرورات السياسية والفكرية إلى إجراء مثل هذه المراجعة، وهو أقل المطلوب منهم بعد أن لم يستطيعوا أن ينهضوا بما نهض به المفكرون القوميون السابقون من إنتاج فكري ذي قيمة في مجال المسألة القومية . إن صمتهم المديد، وضحالة ما يكتبونه إن كتبوا يترك حالاً من الفراغ توفر بيئة مناسبة لخصوم الفكرة القومية وأعدائها، وتقدم حجة على الفكر القومي وتوحي ليس فقط بشلله أمام الأحداث والمتغيرات وطفرات المعرفة، وعجزه عن الجواب عن أسئلتها وتحدياتها فحسب، بل توحي بنهايته .

للفكرة القومية اليوم خصوم كثر، ما من شك في ذلك، لكن الأدهى أن يكون من خصومها بعض أهلها وأقلامها وإن لم يقصدوا ذلك واعين .