سمير عطا الله

بقي ميخائيل نعيمة، الذي عمر إلى ضفاف المائة، رجلا مسالما يكره كل ما هو حرب ومعارك، إلا معركة الليل والبيداء والقرطاس والقلم. عاش ضد العنف، وخطب ضد العنف، وكتب بعنف شديد، ضد العنف، جسديا أو لفظيا أو حتى بالرسوم. وعندما دخلت أميركا الحرب العالمية الأولى، كان قد أصبح واحدا من ملايين الشبان الذين استدعوا إلى الحرب. لم تحوله تلك التجربة إلى ارنست همنغواي آخر، لكنها جعلت منه الأديب العربي، الوحيد على الأرجح، الذي حضر الحرب الكونية الأولى بلباس الجندية.

وما اختزنه نعيمة وكتبه من تلك التجربة كان قليلا، إنما عميقا مثل بئر. وسوف يقدم للقوة العسكرية التي ربحت الحربين الكبيرتين، صورة حقيقية وممزقة لا علاقة لها بالروايات أو الأفلام السينمائية التي زينت للناس، طوال عقود، حياة الخنادق والبنادق. يتساءل وهو مبحر إلى الجبهة: laquo;فما شأني - أنا ابن يوسف نعيمة الذي يصارع الشوكة والصخرة - وشأن فلاح ألماني في شتوتغارت، أو نجار نمساوي في فيينا، أو حداد مجري في بودابست، أو راع تركي في أضنة؟ وفيم أسلخ عن أهلي، وعن بيتي، وعن عملي، وأهان وأمتهن وأساق رغم أنفي إلى حيث أبطش بقوم لا معرفة لي بهم، ولا ضغينة في قلبي ضدهم، أو يبطشون هم بي ولا علم لهم حتى بوجودي؟raquo;.

ثم يتطلع الجندي نعيمة في رفاقه الذاهبين إلى محاربة العالم أجمع، فماذا يرى في هذه القوات؟ laquo;لكم أذهلني أن أرى جنودا لا يميزون يمينهم من يسارهم. وجنودا يجهلون القراءة والكتابة، وليس لديهم أي فكرة عن الحرب وأسبابها، والقائمين بها، وأين تقع النمسا والمجر، وحتى فرنسا وألمانيا. بل إنني سمعت مرة ضابطا يسأل، وفي يده جريدة، أين من جهنم تقع هذه المدينة، وراح يتهجى اسم فيينا حرفا حرفاraquo;.

ثم يخضع هذا الذي يكره الصخب والضجيج ولا يطيق بكاء الأطفال، لدورة تدريبية على استخدام الحربة بطعن جسم مصنوع من القماش: laquo;وعندما جاء دوري طعنت الشبح في صدره، فنفذت الحربة من ظهره وقد غاصت فيه حتى القبضة. ولكنني لم أستطع سحبها بسهولة. فما كان من الضابط إلا أن أخذ البارودة من يدي وراح يريني ويري الباقين، أن سحب الحربة في مثل تلك الحالة لا يحسن أن يتم بحركة واحدة. بل الأفضل أن تدير البارودة في يدك ذات اليمين وذات اليسار، وأن تسحبها إذ أنت تديرها. وبذلك توسع الخرق في الجسم فتزيد في تلفه ويسهل عليك سحب الحربةraquo;.

عاد نعيمة إلى لبنان قبل أن تقع الحرب العالمية الثانية!