خيرالله خيرالله

كشفت الانتخابات البريطانية الأخيرة أن ثمة حاجة إلى صيغة جديدة لإدارة الحياة السياسية في حال كان مطلوباً تفادي مرحلة من غياب الاستقرار. لعلّ أكثر ما تحتاج إليه بريطانيا حالياً شخصية وطنية جامعة قادرة على اتخاذ قرارات كبيرة على الصعيد السياسي تشبه إلى حد كبير القرارات التي اتخذتها مارغريت تاتشر على الصعيد الاقتصادي ابتداء من العام 1979. أسست تلك القرارت لمرحلة طويلة من الاستقرار الاقتصادي والسياسي سمحت لبريطانيا بأن تكون لاعباً على الصعيد الدولي. تبين في ضوء النتائج أن الرابح في الانتخابات البريطانية لم يكن رابحاً. والخاسر لم يخسر. ومن كان يفترض أن يكون بيضة القبان، استطاع أن يلعب هذا الدور بعد إعلان النتائج وذلك رغم من أنه تراجع بدل أن يتقدم. حصل هذا التراجع بخلاف ما كانت تشير إليه استطلاعات الرأي العام التي رشحت حزب laquo;الأحرار الديموقراطيينraquo; بزعامة نيك كليغ للحصول على عدد من المقاعد النيابة يوازي ما سيحصل عليه حزب laquo;العمالraquo; بزعامة رئيس الوزراء غوردون براون، وربما أكثر.
كانت رسالة الانتخابات البريطانية واضحة. لا وجود في المرحلة الراهنة لسياسة تتجاوز حدود الجزر البريطانية. باختصار شديد تبدو بريطانيا غارقة في هموم بريطانيا وذلك في غياب أي شخصية وطنية قادرة على لعب دور ما يتجاوز الحدود. اوروبا نفسها تبدو بعيدة عن بريطانيا رغم من أن الأخيرة عضو في الاتحاد الأوروبي. ليس بين الناخبين البريطانيين من يريد التفكير بأي رابط بين بلاده والقارة العجوز. ثمة من يحمد الله على وجود البحر الذي يفرق بين الجزر البريطانية والقارة، وعلى أن بريطانيا تحفظت عن العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) وحافظت على عملتها الوطنية (الجنيه الاسترليني).
ربما كان هذا هو السبب الذي دفع بالناخب البريطاني يوم السادس من مايو إلى أن يخذل نيك كليغ زعيم laquo;الأحرار الديموقراطيينraquo; الذي برز في المناظرات التي سبقت الانتخابات وتفوق، بالحجة والمنطق معاً، على رئيس الوزراء غوردون براون وزعيم laquo;المحافظينraquo; ديفيد كاميرون. بالنسبة إلى الناخب البريطاني، يبدو كليغ شاباً استثنائياً يمتلك مؤهلات كثيرة تجعل منه نجماً حقيقياً يسطع في سماء السياسة البريطانية في وقت تفتقد الامبراطورية، التي لم تكن تغيب عنها الشمس، شخصية تمتلك جاذبية على الصعيد الوطني.
لكن مشكلة زعيم laquo;الأحرارraquo; البريطانيين يمكن تلخيصها بأن صعود نجمه جاء في الوقت الخطأ. انه اوروبي الهوى. عاش طويلاً في بروكسيل وعمل في إطار الاتحاد الأوروبي. إضافة إلى ذلك، ان والدته هولندية وزوجته اسبانية وهو يتحدث الانكليزية والفرنسية والألمانية والهولندية والاسبانية. كان ذلك كافياً كي يفقد laquo;الأحرار الديموقراطيونraquo; خمسة مقاعد مقارنة مع انتخابات العام 2005 التي ربحها طوني بلير... قبل أن يتخلى عن زعامة حزب laquo;العمالraquo; وموقع رئيس الوزراء لغوردون براون في العام 2008. لا يريد البريطاني العادي السماع بأوروبا ومشاكلها وحتى بلغاتها، خصوصاً أن الأزمة الاقتصادية في اليونان تركت آثارها على اليورو وعلى الاقتصاد الأوروبي ككل وسط مخاوف من امتدادها إلى اسبانيا والبرتغال.
تحول الجانب الأوروبي في شخصية كليغ إلى عبء على الرجل الذي يمتلك جاذبية خاصة ومعرفة بالقضايا الأوروبية والدولية. لكن تراجع حزبه لم يحل دون طرح المشكلة الأساسية التي باتت تعاني منها الديموقراطية البريطانية. تتمثل هذه المشكلة في أن القانون الانتخابي، المبني على الدائرة الصغيرة التي يتنافس فيها المرشحون على مقعد واحد فقط يفوز فيه من يحصل على أكبر عدد ممكن من الأصوات في الدورة الأولى، لم يعد يؤدي الغرض المطلوب. مثل هذا القانون يشجع على التأسيس لنظام برلماني محوره حزبان كبيران. باتت الحاجة الآن إلى ايجاد صيغة للتعايش بين ثلاثة أحزاب بعدما صار كل من الحزبين الكبيرين في حاجة إلى laquo;الأحرار الديموقراطيينraquo; في حال كان يريد تشكيل حكومة لا يسقطها مجلس العموم. ولكن من يضمن أن تؤدي أي صيغة جديدة إلى وجود ثلاثة أحزاب كبيرة فقط بدل أن تفرّخ أحزاب صغيرة تجعل الوصول إلى تشكيل حكومة موضوع مساومات طويلة ومعقدة؟
إلى أين تسير الديموقراطية البريطانية؟ صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تسفر الانتخابات عن برلمان معلق، إذ حصل ذلك في العام 1974، لكن الصحيح أيضاً أن laquo;الأحرار الديموقراطيينraquo;، الذين يطالبون بتعديل القانون الانتخابي، ربما سيتمكنون من فرض التغيير الذي يدفعون في اتجاهه. يسعى حزب كليغ إلى قانون انتخابي جديد مبني على النسبية. ولكن يبقى السؤال هل سيؤدي تغيير القانون الانتخابي، في حال حصوله، إلى استقرار سياسي في بريطانيا، أم يقود إلى مرحلة من الاضطرابات الداخلية، سياسياً واجتماعياً، على غرار ما كان سائداً في إيطاليا في الماضي القريب حيث لم يكن عمر الحكومة يتجاوز بضعة أشهر؟
الثابت أن البريطانيين يريدون التغيير. ولهذا السبب، لم يتمكن غوردون براون وحزب laquo;العمالraquo; من الحصول على أكثرية، بل تراجع العمال على الصعيد الوطني بشكل مريع. كذلك أنهم يبحثون عن شخصية وطنية يستطيعون الاطمئنان إليها في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها اقتصاد البلد. ولهذا السبب لم يحصل غوردون براون والمحافظون على أكثرية واضحة ومريحة تسمح بتشكيل حكومة. هناك شيء ما ينقص كاميرون. يقارن البريطاني العادي بين شخصية براون أو كاميرون بشخصية مارغريت تاتشر، أو حتى توني بلير، فيكتشف أن بلده يخلو في المرحلة الراهنة من شخصية وطنية جامعة وقوية قادرة على حماية البلد من آثار الأزمة المالية التي لا تزال تلقي بظلالها على كل القطاعات الاقتصادية والتي تؤرق الغني والفقير في آن...
الثابت أيضاً ان بريطانيا تمر في مرحلة انتقالية. سيتوجب عليها التفكير في المستقبل، في مرحلة ما بعد الانتعاش الاقتصادي التي أسست لها مارغريت تاتشر وساعد توني بلير في استمرارها حتى العام 2008. طوال تلك الفترة، كانت بريطانيا بمثابة لاعب مهم على الصعيد الدولي بالتفاهم مع الولايات المتحدة طبعاً. سيترتب عليها بعد انتخابات العام 2010 الانكفاء على نفسها أكثر فأكثر. ليس صدفة أن الحملة الانتخابية خلت من أي نقاش ذي مغزى لأي موضوع دولي من أي نوع كان. لم يكن هناك كلام لا عن العراق، ولا عن أفغانستان، ولا عن باكستان، وذلك رغم التورط العسكري البريطاني إلى ما فوق الأذنين في حربين أميركيتين دفعت بريطانيا ثمناً غالياً لمشاركتها فيهما وذلك على الصعيدين المالي والبشري!