سليمان الهتلان

من هناك.. من قبل عام، في مثل هذه الأيام، وفي ذات المكان الذي يقام فيه منتدى الإعلام العربي التاسع، هنا في دبي، ما زال صخب laquo;المنازلةraquo; بين جماعة laquo;داحسraquo; وجماعة بنت عمها laquo;الغبراءraquo; يكاد يصم الآذان! كانت الجلسة الختامية لمنتدى الإعلام العربي في دورته الثامنة، تناقش تغطية الفضائيات العربية للحرب الإسرائيلية على غزة.

كيف سيرت laquo;الأجنداتraquo; السياسية العربية المتصارعة (والمتنافسة في أحسن أحوالها) تغطية فضائياتنا العربية لتلك الحرب القبيحة؟ وكان من حظي (الجيد) أن أدير تلك الجلسة كي أكون في وسط laquo;المعركةraquo;، شاهداً على أبرز ملامح سوء مشهدنا الإعلامي العربي! انقسم laquo;الجمهورraquo; بين فريقين، كما لو كنا في مباراة كرة قدم بين فريقي laquo;الجزيرةraquo; وraquo;العربيةraquo;! جمهور غفير يهتف لفريقه، أو أيديولوجيته، بانفعال وحماسة.

كان المشهد في تلك القاعة الكبيرة التي عقدت فيها الجلسة، يعكس صورة laquo;مثلىraquo; لحال الإعلام العربي: مؤسسات إعلامية مرتبطة بأجندات سياسية متصارعة، وإعلاميون تاهت مهنيتهم المتذبذبة أصلاً في صدام الأجندات السياسية العربية المتصارعة. ضاعت المهنية مع إعلاميين آخر همهم الموضوعية والحياد، وهم مشتتون بين إعلامي laquo;مؤدلجraquo; وآخر laquo;مسيرraquo; وثالث حسبما تهب به الرياح! وتلك حالة باقية ما بقيت مؤسساتنا الإعلامية مجرد أدوات سياسية في صراعات العرب الراهنة أو المحتملة.

إذن، ما الذي تغير في مشهدنا الإعلامي منذ الدورة السابقة لمنتدى الإعلام العربي في دبي؟ لا شيء! لا شيء سوى مزيد من الخسائر للمهنة، في ظل تحكم رؤوس الأموال laquo;المسيسةraquo; في ملكية المؤسسات الإعلامية، وبالتالي خضوع المنتج الإعلامي لأجندات صاحب التمويل، حكومات وأفرادا! وفي كل تأخير لإيجاد مشاريع إعلامية ذات استقلالية، تترسخ مدرسة laquo;إعلاميةraquo; لا يمكن أن تتأسس معها laquo;سلطة رابعةraquo; للإعلام.

فالإعلام العربي اليوم يمكن وصفه بlaquo;السلطة التابعةraquo;، وهي في الواقع laquo;أداةraquo; لتلميع أو ترويج أفكار من يدفع لها الفواتير والرواتب آخر الشهر، وتستخدم في أحيان أخرى laquo;عصاraquo; لتصفية الحساب مع الخصوم والمنافسين!

المزعج أيضاً أن كثيرا من ممارسي المهنة قد تشربوا هم أنفسهم فكرة أن السائد في الممارسة الإعلامية عربياً اليوم، هو الإعلام! الخسارة الكبيرة أن يجهل الإعلامي دوره المهني ومسؤوليته الأخلاقية تجاه مهنته وتجاه مجتمعه، وهو من يفترض فيه أن يكون عيناً أمينة لمجتمعه تراقب مواطن الخلل وممارسة الفساد في أداء المؤسسات التنفيذية.

متى كان الإعلامي العربي صاحب المبادرات التي تقود لكشف الخلل أو ما يمكن أن يقود إليه؟ أعطني مثالاً واحداً لدور حقيقي لعبه الإعلام العربي في كشف فضيحة مالية أو فساد حقيقي لمسؤول عربي؟ ألم أقل إن الإعلام العربي، في أحسن حالاته، ليس سوى laquo;سلطة تابعةraquo;؟ حتى مواضيع الفساد التي نقرأ عنها أحيانا في الإعلام العربي، تأتي عادة بمبادرة من القيادة السياسية أو لأن كارثة وقعت ولم يعد بإمكان أحد إخفاؤها!

تلك هي أبرز خسائرنا الإعلامية، أن يترسخ مفهوم صحفي، يصبح فيه الصحفي مجرد أداة تابعة، ويُميّع القضايا المهمة أو يشغل المجتمع عن القضايا الملحة بتغليب الهامشي على الجاد، وفي النهاية يفقد الإعلام معناه، ويتحول إلى ممارسة هي أقرب للعلاقات العامة منها للصحافة.

لنعترف؛ لدينا منتمون للإعلام ممن يتعاطون مع الإعلام كوظيفة فقط، وليس كوظيفة ذات مسؤولية مهنية ورسالة أخلاقية. ولدينا في الوسط الإعلامي laquo;إعلاميونraquo; يخلطون بين شغل العلاقات العامة والعمل الإعلامي، وبين شغل الترويج ودور الصحافة.

وثمة، في صفوفنا، إعلاميون هم أقرب لlaquo;شعراء القبيلةraquo; ممن يمدح وقت الرخاء ويهجو وقت الشدة! وللأسف الشديد لدينا قيادات إعلامية تستغل مواقعها وعلاقاتها لتحريض السلطة، ضد الأصوات الجريئة التي تؤمن بالنقد الصادق وتمارس الممكن من الاستقلالية. ولدينا أسماء صحفية من laquo;الحرس القديمraquo;، تتشبث بمواقعها القيادية لعقود، أسهمت في تعطيل أي بادرة لإصلاح الخلل الكبير في أداء إعلامنا.

نحن فعلاً أمام laquo;أزمةraquo; في المفاهيم الإعلامية وفي الممارسة. ولا يمكن القبول بمقولة أن هذا الخلل الكبير في أداء وسائل الإعلام العربي هو جزء من كل، فثمة من يقول إنه لا يمكننا أن نفترض مهنية عالية لوسائلنا الإعلامية وهي تعمل في بيئة تعاني من مشكلات كبرى، على أصعدة السياسة والإدارة المحلية والاقتصاد والمد الأصولي.

هذا الخلل الكبير في المشهد الأكبر في العالم العربي، يُحمل الإعلامي العربي مسؤولية كبرى للتصدي للخطأ ومواجهة الفساد، وفي ذلك وفاء للمهنة وخدمة للمجتمع ولقيادته السياسية التي من مصلحتها لجم الفساد وكشف مواقع الخلل.

بألم نعترف بأن أمامنا طريقا طويلا للتأسيس لبيئة إعلامية جادة، تؤسس لوعي حقيقي بقضايا المجتمع ومخاطر الواقع وتحديات المستقبل. غير أن ما يزرع الأمل في محيطنا هو ما نشهده اليوم من بدايات عصر إعلامي مختلف، يسمى بالإعلام الجديد.

إنه مناخ مختلف للتعبير والتواصل السريع بين الداخل والخارج وبين الخارج والداخل، مما يعطي اللاعبين فيه فرصة حقيقية لتعلم مبادئ وآليات مختلفة للعمل الإعلامي، غير تلك التي شاعت وسادت طويلاً في عالمنا العربي.

هذا التفاؤل بعصر الإعلام الجديد، هو في الواقع إنذار لمؤسساتنا الإعلامية الكبرى، أن تدرك الخلل الكبير في ممارساتها الإعلامية، قبل أن تجد نفسها لا تخاطب غير مموليها والعاملين فيها!

إذاً، لنعد لقاعات منتدى الإعلام العربي في دورته الجديدة... ونتفرج!