منير شفيق
الذين وافقوا من لجنة المتابعة العربية لمبادرة السلام العربية سيئة الذكر، على طلب الرئيس محمود عباس بدعمه في العودة إلى المفاوضات غير المباشرة، لم يكن عندهم ما يسوّغون به هذا الموقف -موقف عباس وموقفهم- غير القول أنهم يفعلون ذلك تلبية لطلب إدارة أوباما. فالموافقة مهداة للرئيس الأميركي، والبعض يسمّي ذلك دعماً له في خلافه مع نتنياهو، والبعض الآخر يسوّغه بالقول من أجل إحراجه. والأنكى أن البعض اعتبرها خطوة ذكية في فن المفاوضات.
الذين وافقوا بالعودة إلى المفاوضات غير المباشرة يدّعون أن لا أمل لهم في الوصول إلى نتيجة غير الفشل، وذلك بسبب quot;تعنتquot; من يسمّونهم بالمتطرفين الإسرائيليين الممثلين في حكومة نتنياهو كأن قضية فلسطين عرفت نمطاً آخر من القادة غير المتطرفين. ومع ذلك لنذهب مع quot;العيّار لباب الدارquot;، ونسأل: إذا كانت حكومة نتنياهو ميؤوساً منها، وإذا تحفظتم على قدرة إدارة أوباما على ليّ ذراعها. فلماذا هذا الرهان الجديد على الموقف الأميركي؟ وهل له تفسير إلاّ فقدانكم لإرادة قول quot;لاquot; أمام أوباما. طبعاً إلاّ إذا تعلق الموضوع بمعتقل عندكم وحتى هنا تبقى quot;لاquot; مؤقتة.
أما في الموضوع الفلسطيني، وفي أيّة قضية عربية، تمسّ الأمن القومي العربي فقراركم في جَيْبِ الإدارة الأميركية. وهو ما لم يحصل إلى هذا الحد من التبعية حتى قبل عشرة سنين. ويجب أن نسجّل هنا أن الحكومة المصرية هي التي تقود الجامعة العربية في هذا الاتجاه، وهي المسؤول الأول عنه، وإن كانت هذه المسؤولية لا تعفي أحداً من المسؤولية حين يوافقها على سياساتها التي وصلت إلى هذا الحد من التدّني والخطورة والتبعية.
المأساة تتلخص في نتائج سياسات الموافقة على ما تريده أميركا؛ إذ أثبتت التجربة، على الضدّ مما كان يدّعي البعض، أن الوصول إلى quot;تحالف استراتيجيquot; مع أميركا، وتلبية كل ما تطلبه، لم يؤدّيا إلى أن يصبح quot;التحالف الاستراتيجيquot; متبادلاً، وليس حباً من طرف واحد، بل الأكثر أنهما أدّيا إلى المزيد من الاستهتار الأميركي-الصهيوني، ومن ثم الأوروبي والعالمي، بالموقف العربي العام الذي تمثله تلك السياسات. فما دام قرار القيادة المصرية عدم الدخول في أي شكل، أو أي مستوى، من التعارض مع السياسات الأميركية، أو الوقوف ضدّها أو ممانعتها، فلماذا لا تصبح في الجيب حتى لو وصل الأمر إلى ما يمسّ أهم قضايا الأمن القومي المصري والعربي.
لو سلمنا جدلاً أن فلسطين -كما ادّعى السادات وإعلامه- قد أتعبت مصر، وآن الأوان لتلتفت مصر إلى مصالحها. وقد طبّق عهد الرئيس حسني مبارك ذلك بالتمام والكمال منذ جاء بأحمد أبوالغيط وزيراً للخارجية حتى الآن، أو الأدّق، منذ بدأ موّال التوريث بالهمهمة، لو سلمنا جدلاً بأن مصر تعبت فعلاً من القضية الفلسطينية لوَجَبَ أن نرى الحكومة المصرية مثلاً قد لعبت في السنوات العشر الماضية دوراً نشطاً حاسماً في الحفاظ على وحدة السودان، ومن خلاله، ومعه، الحفاظ على حقوق مصر والسودان في مياه النيل. وبالمناسبة هذا الحدّ من التفريط ما كان ليصله حتى السادات أو الملك فاروق.
الذي شاهدناه في الأسابيع الأخيرة أن الدول الإفريقية المتشاركة في منابع النيل، وسينضمّ لها جنوبي السودان إذا ما انفصل، لا سمح الله، أدارت ظهرها إلى مصر، وعاملتها، بعد فشل مؤتمر شرم الشيخ المتعلق بمياه النيل، باتخاذ قرارات جديدة تتعلق بتوزيع تلك المياه بالرجوع لمصر والسودان أو من دونهما. وقد اجتمعت فعلاً لهذا الغرض فيما ذهبت quot;السكرةquot; وجاءت quot;الفكرةquot; لتتحرّك حكومة مصر باتجاه السودان لدعم وحدته بعد فوات الأوان، أو بعد أن سبق السيف، حيث لم يبقَ أمام الاستفتاء لتقرير مصير الجنوب غير بضعة أشهر.
حكومة quot;الحليف الاستراتيجيquot; العتيد، أي إدارة أوباما، شجعت على إجراء الانتخابات في السودان لتضمن الانتقال الفوري لمرحلة الاستفتاء حول تقرير المصير، ولم تتردّد بالإعلان أنها تريد أن يتمّ الانفصال بطريقة سلسة، أو يكون الانفصال سلساً.
من يفهم في السياسة، أو يتابع السياسة، لا يشك في أن الدول الإفريقية المعنية بمنابع النيل لإعادة تقسيم الحصص في المياه ما كانت لتفعل ذلك، أو تتجرّأ عليه، من دون ضوء أخضر، أو في الأدّق، من دون تشجيع، أميركي-صهيوني مباشر.
وبهذا تكون نتائج السياسات المصرية التي راهنت على العلاقات بأميركا وراحت تسخو عليها بالتنازلات من حساب القضية الفلسطينية والقضايا العربية (في العراق مثلاً)، قد أوصلت الأمور بالنسبة إلى الأمن الوجودي لمصر، وليس الأمن القومي المصري فقط، إلى تقسيم السودان ووضع وجود مصر تحت رحمة دول المنابع. وقد ذهب بعضها بعيداً في علاقاته بالكيان الصهيوني وإن اشتركت جميعاً في ارتباطاتها بالسياسات الأميركية-الغربية.
كان يفترض بمصر ودول لجنة المتابعة، والأمانة العامّة للجامعة العربية، في هذه الظروف، ألاّ يقدمّوا لإدارة أوباما الموافقة على العودة إلى المفاوضات غير المباشرة، على طبق من ذهب، أو قل مجاناً وطلباً للرضى. أي كان عليهم أن يهزوا العصا من أجل وحدة السودان ومياه النيل في الأقلّ، ما داموا قد تخاذلوا عن هزّها من أجل قضية فلسطين.
التعليقات