حسن حنفي

عُرف عن الخطاب الإعلامي الرسمي، في فترات معينة، أنه كان مبرراً للنظام السياسي القائم بما أوتي من ثقافة علمية وإمكانيات للذيوع والانتشار. ومع ذلك لا يصدقه كثيرون؛ لأنه طالما غيّر خياراته طبقاً لخيارات النظام السياسي من الثورة إلى الانقلاب عليها، من الخمسينيات والستينيات إلى السبعينيات وما بعدها. والنكتة الشهيرة هي بائع الجرائد الذي لديه جرائد بلا عناوين. ثم يختم عليها quot;الأهرامquot; أو quot;الجمهوريةquot; أو quot;الشعبquot; طبقاً لطلب المشتري. لا فرق بينها في المضمون. ولا تختلف إلا في العنوان.

ولما ضاق الناس ذرعاً بهذا النوع من الإعلام بعد انتشار القنوات الفضائية العربية، والجرائد غير الرسمية على رغم توزيعها المحدود، واتضاح الحقائق ليس فقط في الإعلام المكتوب أو المرئي بل مشاهدة الوقائع بالعين المجردة: انهيار المنازل، غرق العبّارات، حرائق القطارات، طفح المجاري، أصبح ذلك الإعلام القديم كالنعامة التي تخفي رأسها وجسدها ظاهر. ولم يعد يصدقه أحد، فارغ من أي مضمون حتى وصل إلى درجة الخروج الصريح من المنافسة.

ثم قرر هذا الإعلام الجديد تغيير استراتيجيته إلى إعلام جديد أذكى وأكثر إقناعاً وربما تصديقاً. يقوم على الاعتراف بالواقع الذي تكشف عنه الأطراف غير الرسمية والقنوات الفضائية التي بدأت تجذب أنظار المشاهدين أكثر. فالاعتراف بالحق فضيلة. وأصبحت الأخبار الحقيقية عن مصر تـُعرف من الإعلام غير الرسمي مما يذيعه الآخرون، ويحرج بعض أطراف النظام. وعلى رأس ذلك الاعتراف بحركات الاحتجاج والمظاهرات اليومية بالشوارع أمام مجلس الشعب وأمام النائب العام مثل حركة 6 أبريل، وquot;كفايةquot;، وجمعيات حقوق الإنسان، والمظاهرات التلقائية للعمال والموظفين ضد الفقر والبطالة. ومعظمها حركات اجتماعية تمس حياة المواطنين. وأقلها سياسية حول الديمقراطية والتعددية الحزبية وحرية الانتخابات. فالخبز يسبق الحرية، ومطالب الجسد لها الأولوية على مطالب الروح.

أصبح الإعلام الذكي الجديد يعترف بالواقع المأساوي للناس، الفقر، وازدياد الغني غنى، والفقير فقراً، وارتفاع الأسعار، وانخفاض المرتبات، وسيادة الاحتكار على بعض الصناعات مثل الحديد، ويقر بأزمة الإسكان، وسكان المقابر، والإسكان العشوائي في مقابل استراحات الساحل الشمالي، وتبادل المصالح والمنافع الخاصة، وحشر الناس في المواصلات العامة، وانخفاض مستوى التعليم، وأزمة الشباب، والهجرة غير الشرعية، والبطالة. ولذا لم يعد خطاب الإعلام الرسمي بمعزل عن خطاب المعارضة بل حتى يسبقه في افتتاحيات الصحف والمجلات والعناوين الرئيسية على الصفحات الأولى.

وبدأ الإعلام الرسمي الذكي الجديد يبين حدود السياسة الخارجية وانتهاء السلام كخيار استراتيجي إلى طريق مسدود، وينقد عدم رغبة إسرائيل في السلام، واستحالة جمعها بين الأرض والسلام وخرقها مبدأ اتفاق مدريد quot;الأرض مقابل السلامquot;، واستحالة استمرار تأييد أميركا لإسرائيل دون أن تفقد صدقيتها في الوطن العربي وتولد سياسات مضادة مناهضة لمصالحها في الشرق الأوسط. وكذلك بدأ ينقد على استحياء دول حوض وادي النيل وتعديها على حق مصر التاريخي في مياهها.

ولم يتخلص الإعلام الجديد من بعض أكثر موضوعات الإعلام القديم تعقيداً مثل موضوع الخلافة والتناوب السياسي الذي بدأ يفرض نفسه على الواقع السياسي. و المرشحون ما زالت تحوط بهم العقبات الدستورية أو تشويه الصورة. يهيج الناصريون ضد البرادعي لأنه رأسمالي ليبرالي بعد أن كان الإعلام الرسمي يهاجم الناصرية ويصفها بالديكتاتورية والميل إلى الاتحاد السوفييتي. ويثير أحزاب المعارضة الشرعية ضده لأنه منافسها على الترشيح وعلى جذب أصوات المعارضة منها. والماركسيون ضده بالطبيعة لأنه quot;أميركيquot;! لم يدافع عن العراق بما فيه الكفاية منعاً لاحتلاله. ولذا فأكثر من طرف يساند الحزب الحاكم في الهجوم عليه عوداً إلى الإعلام القديم لتقوية جبهة الرفض له.

ولم يستطع الإعلام الجديد عمل الشيء نفسه مع عمرو موسى الذي لم يتقدم بعد مرشحاً للرئاسة. ومن يدري. فربما يبدأ الإعلام بتجريمه إذا ما رشح نفسه بدلاً من الصمت عنه وعن معارضيه. والهجوم على الآخر ليس أفضل وسيلة للدفاع عن النفس.

ويستعمل الإعلام الجديد الآن إعلاميين أكثر قابلية للتصديق، علماء وأساتذة جامعات وباحثين. يُحسب كثير منهم على الجامعات ومراكز الدراسات، وهم حاصلون على أعلى الدرجات الجامعية. لا تشكك العامة في علمهم، ويصعب تكذيبهم. يبدأون بالتسليم بخطاب المعارضة ثم يعيدون تأويله لحسابهم الخاص. يعترفون بالواقع ثم يعرضون حلولاً من الداخل غير حلول المعارضة التي من الخارج، حلول المعارضة التدريجية وليس حلولها العنيفة الفجائية الانقلابية.

فهل يمكن تصديق الإعلام الجديد؟ هل يمكن تصديق إعلام تعود على تحوير الحقائق وتبرير النظام القائم وتجميله؟ إن هذا التغير النسبي المحدود في الخطاب الإعلامي الجديد لا يكفي لتغطية الواقع. وقد يبدو أن الواقع يكذبه. فلا تصدقه الأذن أو العين. وتغيير في النبرة ليس تغييراً في اللحن، وتغيير الأسلوب والتكتيك ليس تغييراً في الهدف والاستراتيجية. يفتح الأذهان، ويثير بعض التساؤلات، ولكنه لا يغير المواقف المستمرة من الإعلام القديم إلى الإعلام الجديد.

فإذا ما انضمت الأطراف غير الرسمية إليه وكتب الناصريون والقوميون والماركسيون والتقدميون افتتاحيات الصحف والمجلات الرسمية فإنهم يفقدون صدقيتهم القديمة ولا ينالون الصدق الجديد. ويُصاب الناس بالإحباط بالنسبة للمثقفين والكتاب الذين كانوا دعامة خطاب ثم تحولوا إلى دعامة خطاب آخر.

لم يعد الأمل في تغيير الإعلام القديم إلى إعلام جديد، من الإعلام quot;الغبيquot; إلى الإعلام الذكي. فالإعلام بطبيعته محدود الأثر نظراً لاعتماده على النظم السياسية القائمة وتبريره لها. بل يرى البعض أن الأمل في حركة الشارع التي يحاول المثقف تبريرها لصالحه إن كان من أنصار الإعلام الجديد. الإعلام هو صوت العمال والموظفين والطلاب والجماهير وهي تصرخ في الطريق حتى يسمعها الناس والمسؤولون ونواب الشعب. الإعلام بطبيعته، قديماً كان أم جديداً، له حدود في إقناع الناس وتثويرهم ومطالبتهم بالدفاع عن الحقوق. هذا مع ما يحدث في الشوارع من مجارٍ طافحة، ومن انسداد مواصلات، ومن حوادث طرق، وفي المحلات من غلاء أسعار، وفي المساكن من ضيق وانقطاع المياه والكهرباء، ومن وقوف من الصباح الباكر أمام السفارات بالطوابير للحصول على تأشيرة للهجرة أو انتظار الحل من الخارج. والصور المحسوسة والإدراك المباشر للمآسي التي تتجاوز كل حلم وتوقع وأمل في التغيير، تصيب النفس بالإحباط.