حسين العودات

توافق مجلس النواب الفرنسي (باستثناء النواب الشيوعيين) على التوجه إلى إصدار قانون في الشهر المقبل يمنع ارتداء النقاب، ليس فقط في الأماكن العامة والرسمية، وعندما يحتاج الأمر للتحقق من الهوية الشخصية، وإنما أيضاً في الشوارع العامة (وفي الهواء الطلق)، تحت مبرر حماية قيم الجمهورية الفرنسية.

وقيم الجمهورية لمن لا يعرف هي القيم التي أقرتها الثورة الفرنسية عام 1789، والتي يفتخر بها الفرنسيون بل وتفتخر بها الإنسانية، ومن حقهم ذلك لأنها أول قيم حديثة عصرية عقلانية علمانية تنويرية أنتجتها الحداثة وأقرتها البشرية فيما بعد وعملت بها، وقد صاغها العقد الاجتماعي الذي اعتمدته الثورة الفرنسية وصار نموذجاً للدول الأخرى غالباً ما يختزل بالدستور، ويتضمن ما يتضمن قيماً اجتماعية حديثة ومفاهيم الدولة الحديثة وخاصة الحريات وحقوق الإنسان.

لم يكن النقاب لباساً إسلامياً في الماضي ولا هو الآن، ولم يرد ذكره أو الأمر به لا في القرآن الكريم ولا في الأحاديث النبوية الشريفة، وكل ما ورد في الذكر الحكيم (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَيَ جُيُوبِهِنّ).

والوجه ليس من الجيوب، وما ورد في الحديث الشريف (إن صح) هو تعليمات من الرسول تؤكد أن الوجه واليدين ليسا عورة حيث قال: (ماعدا هذا وهذا يعني الوجه واليدين) وحتى الآن لا تلبس المسلمات النقاب في الحج أو حول الكعبة، فلو كان النقاب لباساً إسلامياً وتعليمات دينية للبسته النساء الحاجّات بالضرورة، وفي الخلاصة لم يزعم أحد حتى غلاة المتطرفين من الفقهاء أن النقاب مفروض على المسلمة أو أنه جزء من لباسها، وكل ما في الأمر أنهم استحسنوه (سداً للذرائع).

ويشير المؤرخون الاجتماعيون إلى أن النقاب كان معروفاً لدى بعض القبائل العربية (البدوية) وليست كلها، وإن ممارسته وإخفاء الوجه تحته ازدادت أيام الوليد الثاني وهو (خليفة) أموي متهتك كان يهوى النساء ويضيّق عليهن، ثم فرض على النساء الإقامة في (بيوت الحريم)، وذهب هذا الأمر بعد ذلك تقليداً لدى الأجيال اللاحقة طوال قرون، واستحسن بعض الفقهاء سجن المرأة هذا فسكتوا عنه بل شجعوا عليه.

وقد كان النقاب موجوداً لدى شعوب أخرى مجاورة ومتواصلة مع العرب، وكذلك لدى ديانات أخرى مثل (الزرادشتية والمجوسية وبعض الديانات البوذية). نعود إلى زعم مجلس النواب الفرنسي في أن النقاب يخالف قيم الجمهورية فنقول إنه زعم باطل، لأن على رأس قيم الجمهورية الاعتراف بمرجعية المواطنة وبالعلمانية والحرية والعقلانية وحقوق الإنسان والمواطن التي أقرتها الثورة الفرنسية.

وتعني المواطنة حسب قيم الجمهورية نفسها أنها مرجعية أساسية للمواطن الفرد الحر، أما العلمانية كما يعرفها العلمانيون جميعاً فهي محايدة تجاه جميع الأديان والعقائد والأفكار، وهي منحازة فقط إلى حرية الإنسان وحرية اختياره، ومشروع يقوم أساساً على إرادة الإنسان الحر وعلى الاختيار الإنساني المتحرر من كل سلطة. وبديهي أن مفهوم الحرية الذي هو في أساس قيم الجمهورية يرفض أن يتدخل أحد في الشؤون الخاصة لأحد.

وفي ضوء ذلك لا يخطر في بال المشرّع الفرنسي أن يمنع الشابة الفرنسية من أن تلبس بنطالاً قصيراً جداً أو قميصاً قصيراً جداً يكشف نصف بطنها وظهرها تحت مبرر الاستجابة لقيم الجمهورية ومفاهيمها وشعاراتها، فلماذا إذن تسلب من المنقبة حريتها ويمنع عليها خيارها الإنساني؟

إنه من المفهوم والمقبول أن يقال إن هذا اللباس لا ينسجم مع التقاليد الفرنسية والقوانين الفرنسية الحالية المعمول بها، وأن تجبر المنقبة الكشف عن وجهها كلما كان ذلك ضرورياً للتأكد من هويتها، سواء في المعاملات الرسمية أو في المطارات أو ما يشبه ذلك.

وماعدا مثل هذه الحالات لا شأن لأحد بما تلبس المواطنة الفرنسية، ويمكن السكوت عن منعها من ارتداء هذا اللباس في المؤسسات الرسمية أو في الأمكنة العامة كتسوية اجتماعية، وليس انسجاماً مع قيم الجمهورية، أما أن يمنع في الشوارع والساحات فهذا أمر مستغرب ويخالف قيم الجمهورية دون شك.

إن النواب الفرنسيين هم أكثر من يعرف قيم الجمهورية ومتطلباتها، وأكثر من يدرك أن هذه القيم لا تلزم أحداً بلباس معين، ولذلك فإن اتهام من صوت على هذا القرار بأنه صوت ضد قيم الجمهورية وليس لحمايتها، هو اتهام واقعي ومفهوم، ومن زعم أن هذا القرار موجه للمهاجرين المسلمين لم يبتعد كثيراً عن الحقيقة، بل ربما يحمل هذا القرار التوافقي رائحة العنصرية ومعاداة الإسلام والمسلمين.

إن النقاب أساء أول ما أساء في الواقع إلى الإسلام والتقاليد الإسلامية، وأعطى صورة تؤكد تخلفهم ومعاداتهم للمرأة باعتبارها محط غرائز فقط ومثيرة للشهوات ومقموعة ومحرومة من حقوقها الشخصية، وقد افترض معظم الفرنسيين أن الحجاب هو قرار ذكوري وأمر إسلامي، وإن كان بالفعل قراراً ذكورياً فهو بالتأكيد ليس أمراً إسلامياً.

وهو في بعض جوانبه تقليداً لدى شرائح متعددة من المجتمع تمت المحافظة عليه عبر السنين، وجاء بعض الغلاة لينادوا بإسلاميته، وواقع الحال ليس كذلك، ولكن مثل هذه التصرفات من قبل المؤسسات التشريعية والرسمية الأوروبية تستفز (كرد فعل) جماهير المهاجرين والمسلمين منهم خاصة، لأنهم فهموها على حقيقتها، قرارات موجهة ضدهم وليست انتصاراً لقيم الجمهورية كما يدّعون.

يبدو أن مجلس النواب الفرنسي يعمل على تصدير قيم الجمهورية من خلال مقارنتها بالنقاب، وإعطاء النقاب أهمية توازي أهمية قيم الجمهورية.