جميل الصيفي
من المتعارف عليه أن سن الرشد بالنسبة للأفراد هو المرحلة التي يكون فيها الإنسان قادرا على رعاية نفسه ومعرفة مصلحته وتدبر أمره، وهذا ينطبق على الأنظمة في العالم بأسره.. والسؤال الذي يطرح نفسه هو إن كانت الدول العربية وصلت إلى مرحلة النضج وسن الرشد لتتدبر أمرها وتنتهج سياسات من شأنها الدفاع عن مصالح شعوبها ومواطنيها وتجعل ذلك هو الفيصل في السياسات التي تنتهجها في عالم لا يكترث بالأخلاقيات والعدل والإنصاف بقدر اكتراث الكل بمصلحته ولو على حساب الأصدقاء والحلفاء حينما يكون هناك خيار بين المصلحة وبين القيم الأخلاقية والمعايير المثالية. أغلب الظن أن هذا ليس هو الحال والأحداث الأخيرة على مستوى العالم هي خير مثال، فالعالم لا يحترم الضعفاء ولا الصغار، فنحن كما ذكرنا نعيش في عالم تتكالب فيه الدول وسياساتها من أجل حماية مصالحها والدفاع عن شعوبها ومستقبل أجيالها، أما جمهورية أفلاطون النموذجية التي تعطي كل ذي حق حقه فلا وجود لها سوى في صفحات الكتب.
أطرح هذا السؤال بعد ما تكشف مؤخرا من وقائع جديدة على المسرح الدولي وكلها تبين أن العرب باتوا المستضعفين في هذا العالم وبدأ الأصدقاء قبل الأعداء في التنكر لهم والاستهتار بوجودهم، ويمكن القول إن مقولة quot;إن البغاث بأرضنا يستنسرquot; هي الأقرب إلى الواقع العربي وليس ما قاله عمرو بن كلثوم: quot;إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً- تخر له الجبابر ساجديناquot;.
ومن المؤكد أن التاريخ حافل بمثل تلك الأحداث والوقائع التي سلبت العرب الكثير والكثير من أرضهم وأموالهم وكرامتهم ليس أقلها ما حصل في فلسطين أو في العراق وغيرهما الكثير، فقد حصل حدثان في هذا الشهر بالذات، أولهما كان في الصين حينما رفضت الصين -خلال المنتدى العربي الصيني- التوقيع على بيان يعترف بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة، والواقعة الثانية كانت في استئساد الدول الإفريقية من دول حوض نهر النيل -التي لا يكاد يسمع لها صوت على المسرح العالمي- على كل من مصر والسودان، والرغبة في الانتقاص من حقوقهما المائية الموضحة في المعاهدات الدولية في هذا الخصوص.
لعل القرار الصيني هو الجرح الأكثر إيلاما ويجب على كافة الزعماء العرب أن يقفوا عنده وقفة تأمل وتفكير وتحليل، فمن المعروف أن الصين كانت خلال العقود الستة الماضية النصير القوي وبدون تحفظ للقضايا العربية وأولها القضية الفلسطينية حيث كانت تدرب وتمول وتسلح المقاتلين الفلسطينيين وتدعم القضايا السياسية العربية في المحافل الدولية بدون تحفظ، فما الذي جرى يا تُرى؟
من خلال نظرة متأنية وفاحصة لسلوك الدول العربية، نجد أنها قد بلغت أرذل العمر في عيون دول العالم بعد أن تخلت طواعية عن أسلحتها وأخص بالذكر سلاح النفط وكيف أن العرب استخدموه في عام 1973 خلال حرب أكتوبر وهنا يسجل بأحرف من نور للملك السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز مقولته الخالدة أن quot;النفط العربي ليس أغلى من الدم العربيquot;، ويومها قدمت معظم إن لم نقل كافة دول العالم كتب اعتمادها وولائها للعرب وعبرت عن استجابتها للوقفة العربية الشجاعة يوم ذاك ودفعت بكافة دول إفريقيا إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل ومن بين تلك الدول التي تتنمّر اليوم على مصر والسودان التي ما كانت لتُقدِمَ على ذلك لولا إدراكها أن العرب لن يحركوا ساكنا وأنهم باتوا جثة هامدة، وهنا لله در من قال: quot;رُبَّ حيٍ كَميّتٍ ليسَ فيهِ.. أملٌ يُرتَجى لضُـرٍّ ونفعِquot;، فهل سقطت أنياب العرب وبات الصديق قبل العدو يحتقرهم وحتى الأصدقاء تنكروا لصداقاتهم لهم وكأن لسان حالهم يقول إن هؤلاء القوم غير جديرين بالصداقة، وهنا علينا ألا نلوم إلا أنفسنا، فالصين ذلك الصديق القديم الذي ارتد عن صداقة العرب ما زالت تدافع عن نظام ميانمار أو بورما كما كانت تسمى سابقا وذلك بسبب وجود بعض النفط والمعادن فيها ناهيك عن استمرار صداقتها لكوريا الشمالية برغم أنف أميركا، فهل يا ترى أن النفط في ميانمار والموارد الطبيعية أكثر من نفط وموارد العرب؟ أم أن الفرق هو نوعية الزعامة في ميانمار أو كوريا الشمالية اللتين أثبتتا أنهما مستعدتان للدفاع عن مصالحهما حتى النهاية ومستعدتان للتكشير عن أنيابهما من منطلق quot;ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدّمquot;؟ ذلك لأن الأنظمة العربية ركنت إلى الاستكانة والخنوع وبذرت أموالها وبددت طاقاتها وبدت كالسفيه غير الجدير بالاعتبار في أعين العالم.
لماذا أيها السادة الزعماء تقبلون بهذا الوضع المزري لكم ولشعوبكم على الساحة الدولية لدرجة أن الأصدقاء تخلوا عنكم والأعداء تمادوا في ظلمكم وذلكم.
والله لو كان هناك من يفكر بعمق في حالة الذل التي وصل إليها العرب لفكر ألف مرة في القبول بهذا الضيم والاستمرار في لعق الإهانات من الأعداء أولا ثم من الأصدقاء لاحقا، فهل المصالح التجارية بين الصين وإسرائيل أقوى منها مع أكثر من 200 مليون عربي، وهل العلاقات العسكرية الصينية الإسرائيلية لها الأفضلية على العلاقات الصينية العربية؟ ربما كان في التفوق التكنولوجي العسكري الإسرائيلي والذي في مصدره يأتي من أميركا سبب لذلك، ولكن هل يقارن ذلك بمصالحها الاستراتيجية التقليدية مع العالم العربي؟ والله لو اعتقدت دولة ما في العالم أن العرب مستعدون للدفاع عن مصالحهم والتوحد ضد أعدائهم لحسب العالم لهم ألف حساب، ولكن هُنّا على أنفسنا فهنّا على العالم و quot;من يهن يسهل الهوان عليه، ما لجرح بميت إيلامquot;، ولعل فيما حدث مؤخرا من قبل الصين وبعض دول حوض النيل نذير شؤم لما سيأتي في القادم من الأيام إن لم نتدارك أنفسنا ونعيد حساباتنا من جديد بحيث تكون الأولوية للشعب وليس للكرسي، ووقف التناحر والتخاصم وخوض حروب الآخرين بالوكالة كما كان الحال أيام الحرب الباردة التي يبدو أننا ورثنا تركتها بعد أن سئمها العالم.
إن الأحداث الأخيرة تأكيد جديد على أنه لا توجد عداوات أو صداقات دائمة، بل هناك مصالح دائمة، فهل سنفكر في مصالحنا وكيفية الدفاع عنها وخدمة شعوبنا وأجيالنا القادمة؟
سؤال ستجيب عليه الأيام القادمة.












التعليقات