محمد حسن علوان

بإمكان الوعي الجمعي العربي في حالته الراهنة من الانفتاح الإعلامي أن يتناول القضية بمنظور مختلف بدلاً من تكرار نفس التفسيرات المتوارثة التي لا تخرج عن نظريتي التآمر والتخاذل

تحولت مواقع التواصل الإلكتروني كالفيسبوك وتويتر خلال الأسبوع الحالي إلى ميدان مفتوح لتأييد (أسطول الحرية) والتنديد بالتعنت الإسرائيلي تجاه قطاع غزة المحاصر. الآلاف من مستخدمي هذه المواقع، فتية وفتيات، من مختلف دول العالم العربي والإسلامي، لم تخل صفحاتهم الشخصية من عبارات التأييد الحماسية، والصور المعبرة عن القضية، والمتابعة اليومية لتحركات الأسطول. والذي يراقب هذه المظاهرات الإلكترونية التي يقوم بها هذا الجيل اليافع من مستخدمي الإنترنت يحار بين أمرين: الأول إيجابي، من حيث إنه يعكس اهتمام الجيل بما يجري حوله من قضايا إنسانية وانفعاله الجادّ بالشأن الدولي وحقوق الإنسان، والثاني سلبي، من خشية أن يكون الجيل الجديد قد وقع في فخ الشعارات نفسه الذي وقع فيه الجيلان اللذان سبقاه ولم يخرجا منه بشيء.
أسطول الحرية، بغضّ النظر عن التعامل الوحشي الذي مارسته إسرائيل ضده، وبغض النظر عن أية أجندات إعلامية أو سياسية تقف وراءه، هو من حيث المبدأ جهدٌ إنساني يهدف إلى تقديم مساعدات للمحتاجين من أهالي غزة وتوجيه اهتمام الرأي العالمي إلى الأوضاع المتردية للقطاع. وتفاعل الجيل العربي الشاب مع مشروع كهذا، ودعمهم لفكرته في حدود إمكاناتهم الإلكترونية، يدلّ على أن القضية الفلسطينية متجددة وقابلة للتوارث من جيل إلى آخر، مما يجدر به أن يبعث رسالة واضحة لصناع القرار الإسرائيلي الذين لم يقدموا حلولاً عادلة للقضية رغم قدرتهم على ذلك آملين أن يطمس الزمن قضايا التاريخ. والإيجابي في هذا التفاعل الشبابي مع الأسطول، من وجهة نظريّ، يكمن في أمرين: الأول، أنه تأييد شعبي لعملٍ تطوعي سلميّ، لا يحرض على القتل والعنف، حتى ولو كان ضد من مارسوا هذا القتل والعنف.
وهذا خطوة حضارية في التعامل مع القضية الفلسطينية تنبئ عن وعي متصاعد تجاهها، وتشير إلى تحوّل تدريجي نحو تحقيق النفع للمتضررين بدلاً من تأجيج الصراع الذي يطحن في رحاه من ربما لم يختر هذا الصراع ولا يريده. الثاني، أنه عمل عالمي في نطاقه ، لأن السفن جاءت من أكثر من دولة أوروبية وإسلامية وعربية. وإنساني في معناه لأنه ليس مكرساً لمساعدة رعايا دين أو عرق معين بل أي إنسان مظلوم ومحتاج، وذكي في أسلوبه لأن كان واضحاً ومباشراً وقابلاً للتداول الإعلامي على مستويات شعبية عادية لا حاجة معها إلى تفسيرات سياسية معقدة، وبالتالي يجذب الاهتمام العالمي تجاه القضية، ويحرج الجيش الإسرائيلي الذي يطبق حصاراً قاسياً على القطاع ليضمن عدم تهريب الأسلحة دون أن يطرح حلولاً لإدخال الغذاء والدواء دون أسلحة، رغم خبرته الطويلة في الحروب والحصارات وإدارة نقاط التفتيش.
نتمنى إذن أن يحقق أسطول الحرية أهدافه المعلنة، (وليس لنا أن نفترض أن هناك أهدافاً غير معلنة في هذه المرحلة على الأقل).
ونتمنى أيضاً أن يظلّ مناصرو الأسطول ومؤيدوه من الجيل الشاب ملتزمين بالجانب الإيجابي من تأييدهم للقضية، ومتجددين في أساليب التفاعل معها، ومتحررين من الأفكار القطعية التي سيجدونها حتماً متناثرة في ملفات القضية التاريخية، رغم أن بعضهم قد وقع في السلبية فعلاً عندما نجد آراءه الإلكترونية تقع في نفس الأخطاء الشائعة حول القضية: مثل الدعوة إلى العنف والتهوين من شأن الوسائل السلمية، أو تعميم السخط على الديانة اليهودية بأكملها بدلاً من الإيديولوجية الصهيونية، أو الإمعان في التعلق بالسيناريو الحالم للأمجاد المستوردة من الماضي، أو الوقوع، كما ذكر في بداية المقالة، في فخ الشعارات التي ضيعت من سبقهم من أجيال القضية الفلسطينية.
ومن الطبيعي أن التاريخ سيكون معلماً جيداً للأجيال، واستعراضه بشكل منهجي ومحايد سيساعدهم في الفصل بوضوح بين الحلول التي تنجح والحلول التي تفشل، مهما بدت الأولى أقل بريقاً والثانية أوفر حماساً. ولعله من الضروري استغلال الحدث لمحاولة تعميق فهمنا للقضية تاريخياً بدلاً من اجترار الفهم الأبويّ لها. وبإمكان الوعي الجمعي العربي في حالته الراهنة من الانفتاح الإعلامي أن يتناول القضية بمنظور مختلف بدلاً من تكرار نفس التفسيرات المتوارثة التي لا تخرج عن نظريتين: التآمر الدوليّ، والتخاذل العربي، واللتين تحدّان من المساحة التي يتحرك فيها الجيل الجديد الذي هو من جهة: مثقلٌ بذنوب آبائه وتفريطهم، ومن جهة أخرى مطالَبٌ بعدم التزحزح عن نهجهم تجاه القضية!
السلبية الأفدح التي نتمنى ألا يقع فيها هذا الجيل الشاب عندما يتعامل مع القضية هي أن تصرف هذه القضية نظره عن قضاياه المحلية داخل بلدانه، فبعض الدول التي شاركت دولها في الأسطول لديها قضايا محلية إنسانية تستحق جهد الناشطين، ولا يقلّ بعضها إلحاحاً عن قضية قطاع غزة.
وكما مثّلت القضية الفلسطينية على مدى عقودها الستة مشجباً مناسباً للكثير من القيادات السياسية في المنطقة ليعلقوا عليها كل إخفاقاتهم التنموية والحضارية، ويبرروا من خلالها قوانين الطوارئ واحتكار السلطة، فإن احتمال أن يتم استغلالها على هيئة مشجب (أكثر خبثاً) لا يزال قائماً لصرف نظر الجيل الشاب (الأكثر وعياً) عن قضاياه المحلية (الأكثر صعوبة).
يوجد مناطقٌ كثيرة داخل الدول المشاركة في الأسطول تستحق أن تتجه إليها السفن أيضاً، ولكن المشكلة أن القضايا المحلية لا تحمل رمزية كرمزية القضية الفلسطينية ولا بريقاً قومياً كبريقها، ولا تحقق عائداً معنوياً للناشط كما سيحققه له ركوب سفينة لمناكفة العدو الأزلي: إسرائيل، وبالتأكيد لن تمنح المحطات التلفزيونية أي تغطية تذكر لجهود إنصاف الأقليات، أو مكافحة البطالة، أو نشر الديموقراطية، كما ستمنحها لسفينة تبحر باتجاه غزة، تحمل على متنها غذاء ودواء وأناساً يلوحون بقبضاتهم ويرددون أناشيد حماسية!