عمان ـ سميرة عوض

السلط بالنسبة لي تعني الأنفة والكبرياء.. الكرم والرجولة، هذا ما يردده عميد الصحافيين الأردنيين وابن السلط البار محمود الكايد كلما مرت السلط في ثنايا الحديث الذي لا ينتهي عن حاضرة البلقاء، والتي كانت في العشرينيات من القرن الماضي العاصمة السياسية الأولى للأردن حيث أن الملك عبد الله الأول سكن في وسط المدينة وتحديدا في بيت أبو جابر.
ولد ' أبو عزمي' أو ' أبو العزم' كما يناديه محبوه ـ وهم كثر - في السلط وتحديدا في وادي الأكراد، ' حارة الأكراد'، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى لواء كردي عسكر في الوادي، فيما عسكر لواء حلبي في الوادي الآخر فسمي وادي الحلبي، ومن هنا جاءت تسمية حارة وأكراد.
طفولته مثل طفولة أبناء جيله من مواليد النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي، ولا يزال يتذكر أصدقاء الطفولة والشباب، وزملاء الدراسة ويتواصل معهم.
درس في أم المدارس الأردنية وأعرقها، مدرسة السلط الثانوية للبنين، على أيدي أساتذتها من الأدباء المشهورين الذين يدين لهم بالحب والعلم.
ويظل الكايد يؤكد أن مدرسة السلط تعني له الكثير فهي التربية الوطنية في أجمل معانيها، كما أنها أنموذج يرسخ حب السلط، وحب الأردن، كما أنها زرعت في نفسه ونفوس الأجيال محبة فلسطين والتعاطف معها في جميع الأحوال والظروف التي مرت بها القضية الفلسطينية.
ولا ينقطع ' أبو العزم' عن زيارة مدينته ومعشوقته السلط، يطوف بها كلها، فكلها قريبة الى قلبه، يستعيد ذاكرة وذكريات السلط العتيقة التي كان يجوبها أيام الصبا والشباب على الاقدام برفقة الاصدقاء من اقرانه.
وكيف له أن يصبر عنها، وهو الحاضر فيها كل المناسبات السلطية، وكل مناسبات أهله وإخوانه في السلط، وعائدا بارّاً بوالدته - رحمها الله - التي ظلت تسكن السلط.
وكان ' أبو العزم' غادر السلط عندما عمل في جريدة ' الرأي' سنة 1974 بسبب صعوبة المواصلات والاتصالات آنذاك، لما يتطلبه عمله من جهد وسهر الى وقت متأخر.
ويفتقد ' أبو العزم' العديد من المباني التراثية التي هدمت، وأولها مبنى السرايا في منطقة الساحة، كما يفتقد بعض المباني في وسط مدينة السلط ومنها ما كان يسمى بالوكالة، كما يفتقد علية بيت العائلة في أول وادي الأكراد والذي لم يكن يبعد عن السرايا الا 200 متر فقط، وكانت شبابيكها مقوسة، وكان زجاجها ملوناً. بناها والده عام 1924 إضافة إلى بيوت فلاحية قربها، لكن العائلة قامت بهدمها في السنوات الأخيرة وبنت بيتاً من طابقين تحته محلات تجارية، ولو سألته عن بيت العائلة لقال لك: ' الآن نشعر بالندم الشديد على هدمه'، ويتمنى لو كانت العلية موجودة وأن لا يكون له دار في الشميساني.
ولعل ما يؤلم الكايد أن احد رؤساء الوزراء حضر ذات مرة جنازة في السلط وطلب توسيع الشارع دون النظر الى أهمية المباني التراثية التي ذهبت ضحية رغبته غير المدروسة بتوسيع الشارع.
وسعادة ' ابو العزم' بعودة الوعي التراثي والثقافي لا توصف، فهو يرى فكرة المدن الثقافية تسهم في حركة النهوض بالمدن في سائر المجالات خصوصا الثقافية والمعمارية منها لتظل شاهدا على استذكار التاريخ، وهي مناسبة لتوجيه تحية تقدير لوزير الثقافة السابق الدكتور عادل الطويسي صاحب هذا المبادرة، كما وجه التحية لأبناء السلط من المؤرخين الذين أخذوا على عاتقهم توثيق كل ما يتصل بالسلط وتاريخها.
أسباب كثيرة جعلت ' أبو العزم' يعتقد ان السلط اقدر من اربد على ان تكون مدينة الثقافة الأردنية في عامها الأول منها أن السلط عندما كانت تعد 20 ألف نسمة لم تكن اربد تزيد عن 4 آلاف نسمة، ولعل حماسه للسلط يعود إلى أن مدرسة السلط الثانوية قدمت مستوى ثقافيا مميزا للأردن، فلولاها لم يكن ليتخرج أي من الأردنيين من الجامعات اللبنانية أو السورية أو المصرية أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي.
وكان الكايد عضو لجنة اختيار مدينة أردنية للثقافة، حين شكلت عام 2006 وحين تساوت الأصوات بين مدينتي السلط واربد، صوت رئيس اللجنة الدكتور خالد الكركي لصالح إربد، وبالتالي أضحت مدينة الكرك ثالثة المدن الثقافية الأردنية.
هذا عن معشوقته الأولى فماذا عن الثانية!.
عمل ' أبو العزم' في ' الرأي' عام 1974.
تسلم رئاسة تحريرها في تموز ( يوليو) عام 1976، حتى عام 1988، ليعود بعد سنة رئيسا لمجلس ادراة المؤسسة ورئيسا لتحرير ' الرأي'، وفي عام 1993 رئيسا لهيئة تحريرها حتى عام 1998، وفي عام 2001 عين وزيرا للثقافة.
كتب ' أبو العزم' مقالا في أحد اعياد ' الرأي' قال فيه: ' لا توجد في الصحافة حلول وسط، فإما ان تكبر الصحيفة وتنمو وتواكب روح العصر، بما يتطلبه من تحديث وتطوير، في نهجها وسياستها، في معداتها واجهزتها، في كوادرها وفنييها، او تحبو وتكبو وتتخلف عن الركب'.
وحين يشيد أحدهم بجهوده في نجاح ' الرأي' تراه يرد كما قال في إحدى مقالاته: ' إنني لم أحقق هذا النجاح وحدي، بل ان هذا التقدم والنجاح والمستوى الرفيع الذي وصلت إليه ( الرأي) إنما تحقق بجهود كل العاملين في الصحيفة على مر الأيام والسنين'.
وكان المسؤول الأول في الصحيفة يجيب إذا سئل عن نجاحه وتفوقه: ' تفوقنا ونجاحنا نحن لا تفوقي ونجاحي أنا'. وتلك هي الفلسفة التي جعلت مكتب ' أبو العزم' مكتب الصحافيين جميعا.. وكم سمعناه يقول: أبشر، أبشري... وتلك كلمة لا لبس فيها.
ويرتبط ' ابو العزم' بعلاقات طيبة مع الجميع ومنهم شيخ الأدباء الأردنيين المرحوم روكس بن زائد العزيزي الذي كتب للكايد مهنئا بعيد ' الرأي' عام 1994:
' إلى الأستاذ عميد الصحافة الأردنية السيد محمود الكايد الأكرم رعاه الله.
يا راية المجد، إن ( الرأي) مذ كانا
فخر لصاحبه، يوليه سلطانا.
كتب عنه الكثيرون ومنهم الزميل احمد سلامة معربا عن محبته للكايد: ' أزعم وان بعضا من زعمي هو عندي اليقين.. أن روح محمود الكايد ظلت ترفرف فوق روحي، ونبض قلبه يلامس شغاف قلبي... بك تعلمنا الحب.. وان لم ننجح في تعلم كل دروسك المهنية فسامحنا..
كما كنت تفعل دوما.'..
فيما كتب هاشم صالح سلامة في اليوبيل الفضي لـ ' الرأي' قائلا:
ومضى ' ابو العزم' الذي لم يثنه
هذي هي 'الرأي' المخضرم عزها.
ويتمتع الكايد بالوفاء للأصدقاء وهو ما يتجلى في كتابه ' أولئك الراحلون' الذي هو أقرب إلى المراثي كتبها ليرثي من خلالها أصحاباً له وزملاء ربطته بهم صداقات حميمة وزمالات مهنة، أو حتى ليرثي أناساً عاديين كان لهم دورهم الفاعل في الحياة الأردنية أو العربية، وهذه المقالات كان قد نشرها قبل أن يجمعها في هذا الكتاب في صحيفة ' الرأي' الأردنية التي كان عاملاً فيها، وهدفه التذكير بهذا النفر من الراحلين الطيبين، وفيما يلي ذكر لأسماء بعض من ذكرهم محمود الكايد في كتابه: سليمان النابلس، عبد الناصر، حسني فريز، خليل الوزير ( أبو جهاد)، عبد المنعم الرفاعي، منيف الرزاز، ناجي العلي، باسل الأسد، حسان أبو غنيمة، محمود الشريف، عاكف الفايزocirc;
فيما احتوى كتابه ' خارج النص' على صور قلمية لشخصيات لها حضورها، ليقدم رموزاً شعبية ذات اتجاه وحضور منها، محمد باجس المجالي، وحسن أبو علي، وصبحي جبري، ورموزاً في الثقافة والفكر منها: إحسان عباس، وفدوى طوقان، ونقولا زيادة ومحمود سمرة، وناصر الدين الأسد، وروكس العزيزي، ومناضلين من أجل الحرية والأمة منهم: عبد الرحمن شقير، وبهجت أبو غريبة، وحاكم الفايز، وحمد الفرحان، وشخصيات أخرى ذات حضور سياسي وشعبي وفكري.
ونستعين بما قاله د. خالد الكركي رئيس الجامعة الأردنية للتدليل على حكمة وفلسفة الكايد حين يصفه بقوله: ' إن محمود الكايد لا يقدم كتاباً في التاريخ أو السيرة، وإن كانت نصوصه تأخذ خلاصتها من روح التاريخ وسير الآخرين، وكم هو جميل هذا التنوع في أصول شخوصه ومنابتها وتياراتها الفكرية وفئاتها الاجتماعية، وهو تنوع دال على النسيج الوطني الأردني في مداه القومي النبيل'.