محمد السعيد ادريس

يبدو أن تراث الأمة العربية ldquo;الدراميrdquo; وأحزانه اللامحدودة، سيبقى قادراً على أن يفرض نفسه وبقوة على كل بارقة أمل أو تفاؤل على نحو ما يحدث هذه الأيام في ظل ما يمكن وصفه ب ldquo;فورةrdquo; أو ldquo;هبةrdquo; الأتراك في وجه الكيان الصهيوني . هذا التراث الدرامي المفعم بالحزن والحسرة يجعل المرء يستعيذ بالله عندما تفاجئه بعض نسمات من الفرح العارض ويقول: ldquo;اللهم اجعله خيراًrdquo; . نقول ذلك الآن ونحن نكتم سعادتنا بما يمكن وصفه ب ldquo;العودة التركيةrdquo; مجدداً إلى أمة العرب والمسلمين لتقف في وجه الكيان الصهيوني وأعوانه، وقفة عزة وكبرياء قادرة على أن تقول له وبصوت عال كل ما أصبح من ldquo;المحرماتrdquo; التي نجح في أن يفرضها على النظام العربي، وأن تستعيد ldquo;فلسطينrdquo; مجدداً شعار الحرية والكرامة والوحدة .

لقد وقعت على رؤوس العرب مآس كثيرة أوصلتهم إلى هذه الحال التي هم عليها الآن من الخضوع والمذلة والانكسار، لكن ما هو أخطر هو الانقسام والذاتية والأنانية المفرطة واليأس من المستقبل، يأس من الوحدة ومن التحرر والتقدم، والنتيجة هي تغوّل واستئساد الكيان الصهيوني وتحوله إلى قوة إقليمية عظمى . وما حدث بين العرب وأنفسهم، حدث بينهم وبين جيرانهم وخاصة إيران، ولذلك أخذ السؤال المر يفرض نفسه بإلحاح هذه الأيام: هل يمكن أن يكرر العرب ما فعلوه مع إيران عندما عادت إليهم عام 1979 متحررة من التبعية راغبة في الانخراط القوي إلى جانب العرب في صراعهم مع الكيان الصهيوني وأعوانه من المستعمرين والمستكبرين؟

في العقود الثلاثة التي أعقبت نكبة عام 1948 كانت إيران الشاهنشاهية هي أهم قواعد أمريكا وحلف شمال الأطلسي في استراتيجية إحكام الحصار ضد الاتحاد السوفييتي . وللحقيقة كانت تركيا هي أيضاً تقوم بالدور ذاته وشكلت مع إيران ldquo;فكي كماشةrdquo; يمكنه أن يقبض ويضغط على الاتحاد السوفييتي، وكان المطلوب توفير ظهير عربي داعم لهذه الكماشة، وربط أطراف سلسلة الأحلاف الأمريكية المحيطة والمحاصرة للاتحاد السوفييتي بحلف جديد يربط بين باكستان وتركيا ويضم إيران والدول العربية مع باكستان وتركيا، وعندها رفض العرب، وكانت مصر هي القائدة القادرة على أن ترفض وتطرح البدائل .

كانت البوصلة المصرية واضحة وكان الفرز دقيقاً، ولم يكن هناك أدنى شك بأن فلسطين هي معيار هذا الفرز الذي تُحدّد وفقاً له صداقات العرب وعداواتهم . ففلسطين ترسخت في الوعي الثوري للقيادة المصرية وصارت مفتاح المستقبل العربي، منها يدخل العرب إلى المستقبل ومنها يخرجون .

وهكذا كانت ldquo;فلسطين البوصلةrdquo; وبها دخل العرب في صراع مع إيران الشاه وتركيا الأتاتوركية الأطلسية بعد أن تحالف الطرفان مع الكيان الصهيوني وتعاملا معه باعتبارهما من يمثلان ركائز المشروع الغربي الاستعماري في الشرق الأوسط . لقد كانت المعارك التي خاضتها مصر، والأمة معها، ضد مشروع وسياسة الأحلاف، حرباً من أجل فلسطين بقدر ما كانت دفاعاً عن المستقبل وشعاراته الكبرى، كانت حرباً من أجل الحرية والاستقلال والوحدة والتقدم .

عقود ثلاثة كاملة كان ldquo;مكر التاريخrdquo; هو البطل الأوحد الذي يقود المعارك . ففي الوقت الذي حمل فيه العرب من دون غيرهم من القوى الإسلامية الكبرى مسؤولية الدفاع عن فلسطين، كانت هذه القوى تعمل في الطرف الآخر المعادي .

كانت إيران الشاه وتركيا الأتاتوركية الكمالية ركيزتين للمشروع الغربي الصهيوني، لكن للأسف كانت هناك أيضاً بعض الركائز العربية لهذا المشروع، عندما خرجت أطراف عربية عن السرب وغرّدت خارجه، وفرضت على الأمة أن تخوض ما أسماه البروفيسور الأمريكي الذي عمل في الجامعة الأمريكية بالقاهرة وبيروت ldquo;مالكوم كيرrdquo; ب ldquo;الحرب الباردة العربيةrdquo; التي نجحت في أن تقسم ظهر العرب وتمزق وحدتهم حتى تدافعت النكبات ابتداء من ldquo;نكبة الانفصالrdquo; عام 1961 وسقوط دولة الوحدة العربية لأسباب كثيرة كان أبرزها ldquo;التآمر العربيrdquo;، ثم نكسة ،1967 ثم وفاة جمال عبدالناصر، وبعدها نكبة اتفاق السلام المصري ldquo;الإسرائيليrdquo; عام 1979 .

هنا بالتحديد لعب ldquo;مكر التاريخrdquo; دوره الأعظم، إذ قدّر في هذا العام (1979) أن تعود إيران بعد أن خرجت مصر . عادت إيران بثورتها التي رفعت شعار فلسطين في الوقت الذي خرجت فيه مصر من حلبة الصراع مع الكيان الصهيوني . وكما تعرضت مصر الناصرية للتآمر، تعرضت إيران الثورة للتآمر ربما من الأطراف الدولية والإقليمية نفسها فكانت الحرب العراقية الإيرانية .

منذ ذلك العهد والعرب في عراك وانقسام مع إيران وحولها لأسباب كثيرة وأخطاء إيرانية وعربية كثيرة، لكن كانت فلسطين من أهم الأسباب .

هل يمكن أن يتكرر الخطأ العربي الذي حدث مع إيران مع تركيا ليتحول إلى خطيئة تاريخية؟

هنا يفرض التراث الدرامي للأمة نفسه مجدداً، ليبدّد فرحة العودة التركية، عودة تفرض نفسها من باب كسر الحصار المفروض على غزة الصامدة، وهو حصار كان بعض العرب ومازالوا شركاء فيه .

تركيا تعود من طريق معاكس للطريق الذي سار فيه النظام العربي منذ سنوات، طريق التبعية والتنازلات المجانية .

والسؤال: هل سيدخل العرب في صراع مع تركيا كما دخلوا مع إيران، ما هي الاتهامات التي تنتظر تركيا مع كل خطوة صدام محتملة بينها وبين ldquo;إسرائيلrdquo;؟

أسئلة صعبة تفرضها مرارات تاريخية نحن أبطالها، لكن يبقى الأمل يتجدد ما بقيت فلسطين صامدة .