الرباط - حكيم عنكر


هل هي بداية صعود جيل جديد في السياسة في المغرب، قادم من الصف الثاني من زعامات الأحزاب السياسية التاريخية؟ أم أن القادمين الجدد، هم مجرد حراس للمعبد القديم؟

أسئلة تطرح، في سياق التحولات التي يعرفها المشهد السياسي المغربي على مستوى تركيبته، وبالنظر إلى صعود قيادات جديدة أصبحت تملك إمكانية توجيه الحياة السياسية لأحزابها، وتصنع رفقة نخب جديدة قادمة من سياقات معرفية وسياسية وتربوية مختلفة ديدن السياسة في المغرب .

لعل واقعة انتخاب نبيل بن عبدالله أميناً عاماً لحزب التقدم والاشتراكية، بعد انسحاب إسماعيل العلوي، الذي شغل هذا الموقع إثر وفاة قائد الحزب التاريخي، الراحل علي يعته في حادثة سير، هو نقطة تحول جديدة في الحياة السياسية المغربية، مؤداها نهاية احتكار جيل الزعامات التقليدية للمواقع القيادية في الأحزاب ولفترات طويلة لا تنتهي في الكثير من الأحيان إلا بموت الزعيم .

كما أنها تكتسي بعداً رمزياً آخر وهو نهاية الوئام الذي عاشت فيه الأجيال السياسية المغربية، وبالأخص، الجيل السبعيني والثمانيني، والذي وجد نفسه أسيراً لجيل أقدم منه يمتلك المشروعية الوطنية، وهو جيل الحركة الوطنية الذي كان حجرة عثرة في وجه تطور الحياة السياسية والخروج من جبة الزعيم إلى وجهات أخرى، حيث يمكن تجريب حلول أخرى في الحياة السياسية المغربية، غير الحلول السابقة التي أنبنت على التحالفات المبدئية والقرابة والسياسية والتوافق على تدبير الشأن العام في لحظات الصراع السياسي والاجتماعي .

انتخاب ابن عبدالله من هذه الزاوية يكرس لعلامات بداية هذه المرحلة، لكن ذلك غير كاف في حياة سياسية وحزبية مغربية لا تزال تدار بشكل تقليدي، ويهيمن عليها الولاء للزعيم بدل التدبير الديمقراطي .

لكن في كل الأحوال، فإن المزاج العام لم يعد يتقبل هيمنة الوجوه القديمة على المشهد السياسي في المغرب، بل إن دورتين متواليتين أصبحتا كافيتين لتطبيق البرامج الحزبية وللحفاظ على نوع من الدينامية الداخلية والحركية في تدوير النخب السياسية .

كما أن أغلب القوانين والأنظمة الحزبية عملت في مؤتمراتها الأخيرة على تعديل قوانينها، بما يسمح بنوع من الديمقراطية الحزبية الداخلية في انتخاب أجهزتها التقريرية، فبعد أن كان الأمين العام للحزب يمر عن طريق التزكية من المؤتمر، أصبح كمنصب سياسي، يخضع مثل غيره من المناصب السياسية للتصويت السري، وهذا تطور شكلي من شأنه أن يتيح الفرصة أمام قيادات الصف الأول والثاني لنوع من التباري على المسؤولية السياسية .

صراع أجيال سياسي

من المفترض، وحسب قانون الانتخاب الطبيعي، أن يظهر جيل جديد من القيادات الحزبية، فالأمر يرتبط بالمعطى البيولوجي الذي يفرض سلطته القاهرة على الزعماء التقليديين والركون إلى الوراء وإفساح الطريق، لكن هذا ليس حالة عامة، إذ يمكن النظر إلى صمود بعض الزعماء التاريخيين في مواقعهم، مثل المحجوبي أحرضان الذي جاوز التسعين من العمر ولا يزال على رأس الحركة الشعبية، بل وتحدوه رغبة للبقاء على رأس الحزب في مؤتمر الحزب الذي ينعقد الأسبوع القادم، حيث يمكن النظر إلى هذا الصمود كعلامة على المحافظة والتردد اللذين يسمان الحياة السياسية في المغرب ويجعلانها تتأرجح في مكانها غير قادرة على الحسم مع طرق تدبير الماضي سياسياً .

الدعوة إلى تجديد النخب يأتي في هذا السياق المتسم بانحسار دور الأحزاب السياسية، وضعف المشاركة والاهتمام بالشأن العام، كما أن الدولة ومن أعلى مستوياتها دعت صراحة وفي أكثر من مناسبة إلى تخليق الحياة الحزبية وتنقية البيت الداخلي للأحزاب، وتكريس الأعراف الديمقراطية في تدبير الخلافات الحزبية، والتي أدت في فترات سابقة إلى مزيد من الانشقاق ومن تمزق الخريطة السياسية في البلاد .

ولم يكن دفع الدولة في هذا الاتجاه منذ سنوات، على أساس الرغبة في تشبيب الحقل السياسي وملاءمته مع النسبة الكبيرة من الأجيال الجديدة في المغرب فقط، بل على أساس الملاءمة السياسية والثقافية مع جيل يحكم، ومع أهدافه السياسية وغيرها، وتجاوز تأثيرات الماضي وإرثه، وهو ما يجعل الأمر مسألة تدبير دولة، وليس إفرازاً تلقائياً للمجتمع، يتناسب وتطور الوعي العام عند الفاعلين السياسيين المغاربة .

لكن رغبة الدولة في تشبيب الحقل السياسي، لا يمكن أن تتحقق بجرة قلم ولا لمجرد التعبير عن هذه الرغبة، ولكن بإفساح طرق التدبير الديمقراطي ابتداء من الدولة ونهاية بالمجتمع، لأن فبركة خريطة سياسية لن يؤدي إلا لنتائج عكسية، وتكريس الشلل العام والفساد، وهذا ما حذرت منه الأحزاب الديمقراطية في المغرب حينما دعت إلى تلافي بلقنة الحياة السياسية في البلاد وسد الباب في وجه المفسدين .

لكن يمكن التأكيد على أن الجيل الجديد والصاعد من القادة الحزبيين، الذي ولد بعد الاستقلال، والتحق بالسياسة أو بمسؤوليات في الإدارة في العقدين الأخيرين غير مثقل الذاكرة بذكريات النضال من أجل الاستقلال، وبأحداث السنوات الأولى للاستقلال، التي حسم فيها مسار المغرب، ولا يحمل جراح سنوات الرصاص، التي لم تتمكن هيئة الإنصاف والمصالحة من طي صفحتها بالكامل .

وهو جيل ولد ونشأ في ظل ثقافة مجتمعية تغيرت نسبياً، من علاماته خفوت النبرة الأيديولوجية وظهور الخطابات الاجتماعية، وصعود نجم الحركات الإسلامية في المغرب، والتي تقوّى دورها التأطيري، وأصبحت فاعلا اجتماعياً لا يمكن إغفاله من حسابات السياسة، ولا من الحراك العام الذي يعرفه المجتمع المغربي .

من مميزات الجيل السياسي الجديد في المغرب هو البراغماتية التي يتحلى بها، كسلوك سياسي وبشري، ولذلك يبدو، أينما كان موقعه، مستعداً للتسويات والحلول الوسطى ولا يغريه الميل إلى الصراعات، التي شغلت الأجيال السابقة، كما يبدو أنه لا يعير اهتماماً أساسياً للأيديولوجيا والمشاريع الفكرية الكبرى ويفضل التعاطي مع السياسة باعتبارها لعبة تجريبية، وبحثا مستمرا عن حلول وسطى بعيدا عن مقولة التغيير .

ومن مميزات الجيل الجديد من القيادات أنه براغماتي وشخصاني ويميل للمحاصصة ويؤمن بالماركيتينغ السياسي ويفضل إعادة توزيع الأوراق ويرتبط بشبكة علاقات ولا يفضل المراجعات العميقة وغير معني بالإصلاحات الكبرى ويلتقط الإشارات السياسية من أصحاب القرار ويوظفها بسرعة لخدمة مصالحه الظرفية والآنية .

بخلاف جيل القيادات التاريخية، التي كانت تتميز بعدة مميزات من بينها، أنها كانت مبدئية وترفع الشعارات الكبيرة ولها برنامج سياسي شمولي وعاشت زمناً طويلاً في كنف المعارضة وتخرجت في المدرسة الوطنية وليست جماعة زبناء سياسيين وشريك في المشروع العام للدولة كما أن الصراع السياسي واضح بالنسبة إليها ولذلك تؤمن بالحلول الوسطى في تدبير الشأن العام وفي ممارسة السلطة .

لكن هل تستطيع هذه الطبقة السياسية الجديدة أن تلعب في وقتها الأصلي، وهل يمكن أن تقود جيلاً جديداً من الإصلاحات السياسية والدستورية، أم أنها ستبقى سجينة لنظرتها الضيقة إلى تدبير الشأن العام، في ظل تنامي هيمنة الإسلاميين على المشهد الانتخابي واكتساحهم للأجهزة التمثيلية في البلاد، ما يسهل عليهم التحكم في الصراع حول السلطة يعرفون جيداً حدوده وآفاقه .

الديمقراطية والثقافة

في الندوة التي نظمها ldquo;مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطيةrdquo; وrdquo;اتحاد كتاب المغربrdquo; حول ldquo;سؤال الثقافة ورهانات الديمقراطية المحليةrdquo;، مؤخراً، تشخيص لمكونات الثقافة المغربية في ارتباطها بالمجال الثقافي الراهن، إلى جانب استعادة الذاكرة الثقافية والتاريخ الثقافي الطويل، الذي تزخر به هذه الثقافة من خلال مظاهرها وتشكلاتها وتمظهراتها وتمثلاتها، التي التحمت بوجود الإنسان المغربي في المغرب القديم والوسيط والحديث والمعاصر، وكان من أبرز المفاهيم، التي فرضت نفسها في التوصيف والتحليل والمقاربة والتأويل مفاهيم ldquo;التعددrdquo; وrdquo;التنوعrdquo; وrdquo;المركزrdquo; وrdquo;المحيطrdquo; وrdquo;التوازنrdquo;، إلى جانب مفاهيم ldquo;الديمقراطيةrdquo; وrdquo;التنميةrdquo; وrdquo;الإصلاح الديمقراطيrdquo; وrdquo;الجهوية الموسعةrdquo; وrdquo;الهويةrdquo; وrdquo;التدبير الثقافيrdquo;، ثم مفاهيم ldquo;الكونيةrdquo; وrdquo;التواصلrdquo; وrdquo;الإبداعrdquo; .

وجرت الدعوة لصياغة أرضية فكرية وثقافية واقتصادية وسياسية جديدة لجعل الديمقراطية الجهوية بمثابة ldquo;رافعةrdquo; الشأن الثقافي وعموده الفقري .

الندوة أكدت أن الثقافة والديمقراطية، في المغرب الراهن، شرطان متلازمان لتصور أفق المجتمع المغربي، وتصور المغرب الديمقراطي الحداثي وبناء الدولة الوطنية الحديثة من خلال التفكير في المشاريع التنموية والأدوار والوظائف، التي تقوم بها الثقافة المغربية، بتعددها وتنوعها وزخمها وتعبيراتها، في إبراز الهوية المغربية بإسهام الدولة والفاعلين الجهويين والنخب والمثقفين ومكونات المجتمع المدني، بحثا عن نموذج ثقافي واقتصادي واجتماعي وسياسي، يراعي المكونات الكبرى، وكذلك الخصوصيات الجهوية .

وطالبت الندوة ببلورة سياسات عمومية تدرك معادلات ldquo;المحلّيrdquo; وrdquo;الجهويrdquo; وrdquo;الوطنيrdquo; بقدر ما تدرك أيضا، مقومات الهوية في شروطها اللغوية والثقافية والاجتماعية والإنسانية لضمان التوازن بين الجهات، والتكامل بين الدولة وبين هذه الجهات من منظور وظيفي واستراتيجي، لترشيد الحكامة الجيدة، وجعل سياسة القرب معبراً وأداة للتدبير والتخطيط . وهكذا تصير الجهوية، أو الديمقراطية المحلية .

كما سعت الندوة إلى طرح ذلك، فضاء مشتركاً من شأنه الحفاظ على الممتلكات المادية والرمزية وأجرأة التصور الديمقراطي البديل للنموذج القائم، كما تحقق تلك النقلة النوعية، التي يراهن عليها المغرب الآن، وهو ينخرط في مشروع الجهوية، كما يراهن عليها الباحثون والفاعلون والمهتمون بالشأن الثقافي والديمقراطي والشأن السياسي، متضافرين مع ما يتضمن ذلك من استقراء واستقصاء واستبصار لمختلف ما تزخر به الثقافة المغربية من مكونات، وتعبّر عنه التصورات والتنظيرات والمقاربات النظرية بصدد هذه الثقافة وتراكماتها قديما وحديثا وراهنا .

التنمية والثقافة

من ينتج الثقافة اليوم؟ ما علاقة الثقافة بالتنمية؟ كيف يتعامل المثقف في المغرب مع ما يحدث في المغرب؟ أيّ دور للمثقف؟

أسئلة ملحة أخرى طرحتها ندوة ldquo;سؤال الثقافة ورهانات الديمقراطية المحليةrdquo;، لتجاوز المسلمات والمراهنة على السؤال المعرفي النقدي، وجعل المثقف المغربي معنياً بالسؤال الثقافي، وتشخيص قيم الانتماء إلى الهوية الثقافية المغربية والانخراط في المشروع الديمقراطي الجهوي الحداثي، وتجاوز الخلل القائم في المؤسسات والهياكل ونقد العقليات والذهنيات السائدة في مغرب اليوم .

المشروع الديمقراطي الحداثي رهان، غير أنه لن يجد طريقه إلى حيز الإنجاز، إلا إذا كانت الجهوية ذات مضمون جديد في تصور المكان والإنسان والمكونات والممتلكات المادية والرمزية، وتدبيرها وجعلها قاطرة في التخطيط والتنمية، وتحمل المسؤوليات على مستوى المركز، وعلى مستوى الجهات بالمعنى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، تفاديا للسقوط في ذلك الفصل القاتل بين المركز والمحيط أو بين المركز والأطراف أو الهامش، وتجنبا لقناعات وجود جهات على حساب جهات أخرى بدعوى ldquo;الغنىrdquo; الثقافي والاقتصادي وغيرها، ما يزكي خطابات العصبية والتعصب والتطرف ويعرض الجميع للتلف والنسيان والإقصاء، كما تؤكد ذلك عدة معطيات عبر التاريخ الثقافي الاجتماعي المغربي قديماً وحديثاً . ما يستدعي ربط المشروع الديمقراطي برؤية نقدية معرفية جديدة، يسهم فيها المفكرون والباحثون والمنظرون والفاعلون لاقتراح صيغ جعل الجهوية مطلباً وشرطاً وإمكاناً في الآن نفسه .