جميل الصيفي
كل من يُمعن النظر ويطيل التدقيق في مجريات الأحداث الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، يلاحظ أنه في غياب دور فاعل للعالم العربي وبسبب الفراغ المتكون من ذلك هناك قوتان إقليميتان صاعدتان في المنطقة تحاول كل منهما ملء الفراغ في المنطقة وأقصد بهما تركيا وإيران، ولعل أوضح مثال لذلك يتمثل في العلاقات التركية السورية والعلاقات الإيرانية السورية، فبعدما رسخت إيران أقدامها في كل من سوريا وحزب الله اللبناني وحماس بدرجة ما، وجدنا أن تركيا لم تلتزم جانب الصمت والترقب, ولكنها بادرت إلى التحرك من أجل أن تكون لها مساحة للعمل وإثبات الوجود في تلك الجبهات الثلاث، فبادرت إلى التوسط بين سوريا وإسرائيل والإشراف على مفاوضات غير مباشرة بينهما في ظل حكومة أولمرت على أمل تحقيق السلام بينهما بما يرضي كلا الطرفين، إلى أن جاءت حكومة نتنياهو الرافضة لكل شيء فهي ترفض حتى الرفض وأرادت أن تعود بالأمور إلى المربع الأول إدراكا منها أن التقدم في العملية السلمية يقتضي منها ويستوجب تقديم تنازلات إسرائيلية, إما لا ترغب تلك الحكومات القيام بها وإما لا تقدر عليها مثل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة أو إقامة دولة فلسطينية, ناهيك عن افتعالها مؤخرا لأزمة ما يعرف بصواريخ سكود السورية إلى حزب الله, في منحى لتصعيد الأمور وخلط الأوراق وربما الاستعداد للقيام بمغامرة إسرائيلية جديدة تقلب الوضع وتخلط الأوراق في المنطقة, وهو احتمال وارد بشكل قوي خلال هذا العام إن لم يحدث انفراج على الساحة السياسية الشرق أوسطية, وأقصد عملية السلام, حيث إن إسرائيل باتت تروج لفكرة أن الخطر الذي يتهدد الشرق الأوسط يكمن في البرنامج النووي الإيراني وليس القضية الفلسطينية, وهو ما شاركها فيه بعض العرب, وللأسف الشديد, هناك مِن الأنظمة العربية مَن هي ببغاوات تكرر ما تقوله الدوائر الإسرائيلية والغربية, وبذلك فهي تدفع القضية الفلسطينية لتكون في الظل أو مؤخرة الأجندة الشرق أوسطية.
لم تُغفل تركيا الساحة الفلسطينية ولم ترد أن تُبقي إيران محتكرة للدور الإقليمي, بل الإسلامي, فسارعت إلى مغازلة حماس رسميا وحزبيا وتشكلت منظمات شعبية تركية تناصر القضية الفلسطينية وتتعاطف بشكل كبير مع حصار غزة, بل إن هناك من أخذ يدعو في تركيا إلى تناغم في الفكر الإسلامي بين حماس وبين حزب العدالة والتنمية ومنظمة فتح الله غل, وغيرها من المنظمات التركية الشعبية, وتفاعلت الفكرة وتطورت لتشمل تنظيم حملة قافلة الإغاثة أو ما عرف بأسطول الحرية لكسر الحصار عن غزة, وما رافق ذلك من تطورات أدت إلى الحماقة الإسرائيلية بمهاجمتها لقافلة السفن داخل المياه الدولية وما نتج عنها من تفاعلات وردود فعل غاضبة في العالم وهذا أمر طبيعي، ولكن الأمر غير الطبيعي كان في طبيعة الرد الإيراني على الهجوم الذي أقل ما يقال عنه أنه كان باهتا, ويمكن أن تشتمّ منه رائحة الغيرة أو شعور تحقيق اللاعب الآخر لنقطة محسوبة له في التنافس في هذا المضمار، وعليه فلم يكن الرد الإيراني بتلك الحدة المعهودة عنه, وكان آخر ما أعلنته إيران ومن باب محاولة اللحاق بالركب هو إعلانها عن إرسال سفينة مساعدات إلى غزة, وأن الحرس الثوري مستعد لمرافقتها.
أما فيما يتعلق ببرنامج إيران النووي، فقد تحركت تركيا مع البرازيل بعد تردد من قِـبـل رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي ونجحتا في إبرام صفقة مبادلة اليورانيوم الإيراني منخفض التخصيب بوقود نووي على أن يتم التبادل على الأراضي التركية, وهنا, وفي هذه النقطة تأكيد على صدارة تركيا ورعايتها للتحركات الدبلوماسية الإقليمية والدولية بما يؤكد على الدور الريادي التركي كقوة صاعدة جديدة في الشرق الأوسط, وربما تكون المنافسة للدول الكبرى والقوى التقليدية في المنطقة, وربما كان ذلك أحد أسباب رفض الغرب لتلك الصفقة لسحب البساط من تحت أرجل تركيا, الأمر الذي دفع بالقوى الغربية لعقد جلسة لمجلس الأمن الدولي نجحت فيها بالإقناع أو الترغيب أو الترهيب بحشد غالبية من اثني عشر صوتا لصالح مشروع قرار يؤيد فرض المزيد من العقوبات على إيران, وهو القرار الذي صوتت ضده كل من تركيا والبرازيل العضوان غير الدائمين في مجلس الأمن, بينما امتنع العضو العربي الوحيد في المجلس وهو لبنان عن التصويت, مما أثار العديد من التساؤلات المحرجة في العالم العربي والخارج, وهو قرار جاء بناء على تعقيدات الأوضاع العربية والشد بين الموالاة والمعارضة, سواء في لبنان أم في العالم العربي.
لم يفت تركيا أن تلعب وبذكاء ورقة الملف النووي الإيراني، فرجب طيب أردوغان رفع صوته بحدة في وجه أولئك الذين يركزون على البرنامج النووي الإيراني مطالبا بتسليط الأضواء على البرنامج النووي الإسرائيلي, لدرجة أنه قال ذات مرة إن على من يحاول منع إيران من امتلاك القدرة النووية أن يعلم أن هناك قوة في الشرق الأوسط تمتلك الأسلحة النووية دون أن تتعرض للمساءلة أو المطالبة بإخضاع مرافقها النووية للتفتيش الدولي, وطالب من هذا المنطلق بأن يكون الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية, في الوقت الذي لا تطيق فيه الولايات المتحدة وأوروبا فكرة مناقشة القدرات النووية الإسرائيلية في وكالة الطاقة الذرية الدولية.
خلاصة القول, إن هناك تنافسا تركياً- إيرانياً في منطقة الشرق الأوسط, وهذا تنافس تركيا وإيران أمر مشروع فكل منهما تحاول تحقيق طموحاتها في منطقة يغط زعماؤها في نوم عميقيغط زعماء دولها في نوم عميق أقرب منه إلى نوم أهل الكهف, وأما المستيقظون منهم فهم سكارى وما هم بسكارى ولا يهمهم ما يدور حولهم طالما أن الكرسي في الحفظ والصون، فالبرنامج النووي الإسرائيلي ابتدأ في الخمسينيات وكان مهندسه وعرابه يومها شيمون بيريز رئيس إسرائيل الحالي, بينما كان زعماء العرب منهمكين في الاستماع إلى وصلات الردح والقذف, ويدبرون المؤامرات ضد بعضهم, في الوقت الذي كانت إسرائيل تبني فيه المفاعلات النووية وتصنع الأسلحة الذرية، بينما كان معلقو الإذاعات العربية يتبادلون أقبح السباب والشتائم التي يندى لها الجبين, وكانوا وما زالوا في سكراتهم يعمهون.
التعليقات