برهوم جرايسي


قبل تسعة أشهر من الآن، صدر تقرير القاضي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون، الذي ترأس لجنة تقصي الحقائق حول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة قبل عام ونصف العام، وأكد التقرير أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية، فهل هناك من عاد يذكر هذه اللجنة واستنتاجاتها التي لو كانت ضد دولة أخرى، لبات عدد من قادتها خلف القضبان؟
قبل تسعة أشهر quot;قامت الدنيا ولم تقعدquot;، شكاوى في دول أوروبا تلاحق المسؤولين الإسرائيليين، واجتماع طارئ للجنة حقوق الإنسان ليتبعه اجتماع آخر، ضجيج وصخب، وهناك من صدّق الحكاية، لدرجة أتخيل معها أنه جلس على عتبات المحكمة الدولية في لاهاي منتظراً رؤية قادة إسرائيل مُكبّلي الأيدي يساقون إلى قفص الاتهام.
ولكن قادة إسرائيل لم تطرف لهم عين، وكانوا في قرارة أنفسهم يضحكون على اللجنة وعلى لجنة حقوق الإنسان ومجلس الأمن والأمم المتحدة، لأنهم يعرفون أنه لن يخرج من هذا شيء.
وقبل أن تكتمل الأشهر التسعة لصدور تقرير غولدستون، نفذت إسرائيل مجزرة أخرى ضد أسطول الحرية، وقتلت مدنيين على متن سفينة مدنية في مهمة إغاثة إنسانية، خلال إبحارها في المياه الدولية، وترفع علم دولة سيادية، تركيا، وفي كل واحدة من هذه الحقائق تم ارتكاب جريمة بحد ذاتها، بمعنى اعتراض سفينة في المياه الدولية تابعة لدولة سيادية، وتنفيذ عملية إنزال عسكري وإطلاق النار وقتل تسعة وجرح عدد آخر.
quot;وفجأةquot; نجد أنفسنا أمام المشهد ذاته، مطالبات دولية واسعة بتشكيل لجنة تحقيق دولية، وبموازاة ذلك تحظى إسرائيل بدعم أميركي ومن بعض الدول الأوروبية لتشكيل quot;لجنة فحصquot;، وحتى ليس لجنة تحقيق، كي تتجنب إسرائيل تشكيل لجنة تحقيق دولية، فبموجب القانون الإسرائيلي، فإن لجنة الفحص التي تشكلها الحكومة ليست لها صلاحيات والحكومة ليست ملزمة بتنفيذ توصياتها واستنتاجاتها، في حين أن لجنة التحقيق هي عمليا أشبه بمحكمة والحكومة ملزمة من حيث القانون بتنفيذ توصياتها.
ولكن إسرائيل أرادت استكمال المسرحية، فغير أن اثنين من أصل ثلاثة من أعضاء اللجنة لهما من العمر 93 عاما و86 عاما، والأول مُقعد لا يقوى على الحركة، فقد استحضرت مراقبين أجنبيين اثنين، الأول من أيرلندا والثاني من كندا، لتبلغنا الصحف الإسرائيلية في اليوم التالي بأن الأيرلندي ديفيد تريمبل هو صديق شخصي لكل من الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كما أنه يُعتبر صديقا مخلصا لإسرائيل، أما الكندي كين فيتكين، فقد قالت المصادر الإسرائيلية إن الحكومة الإسرائيلية مطمئنة لموقفه الحادّ من التنظيمات التي تزجّ بها إسرائيل في خانة الإرهاب.
بطبيعة الحال فإن quot;لجنة الفحصquot; الإسرائيلية، وحتى إن كانت quot;لجنة تحقيقquot; لن ننتظر منها شيئا، فهذه اللجنة أُقيمت في ظل إجماع إسرائيلي داعم للمجزرة، حتى إننا قرأنا قبل أيام لافتات في شوارع إسرائيل وعلى الحافلات quot;تعاتبquot; وحدة جيش الاحتلال التي نفذت المجزرة لأنها quot;اكتفت بقتل عدد قليلquot; من الناشطين على متن سفينة مرمرة، ولهذا فإن حكومة نتنياهو-إيهود باراك، مطمئنة سلفاً إلى الدعم المحلي، الأساسي بالنسبة لها.
والحال لن تكون مختلفة حتى لو أقرت الأمم المتحدة تشكيل لجنة أياً ما كانت للتحقيق في مجزرة أسطول الحرية، فقد أعلنت إسرائيل مسبقا أنها لن تتعاون مع أية لجنة تحقيق دولية، ولن تسمح بالتحقيق مع جنود الاحتلال وضباطهم، وهذا الحظر يسري أيضا على quot;لجنة الفحصquot; الإسرائيلية، وهو الموقف نفسه الذي اتخذته الحكومة الإسرائيلية حينما تقرر تشكيل لجنة غولدستون.
بمعنى آخر، نحن سنكون مرّة أخرى أمام المشهد ذاته، وستستهتر إسرائيل مرة أخرى بالهيئات الدولية، وكل ما يصدر عنها.
ما كان بإمكان إسرائيل أن تتمترس في هذا الموقف وتتحدى العالم بأسره، لولا اطمئنانها لسندين أساسيين، الأول، وهذا ما أكدناه في مقالات سابقة: الرأي العام الإسرائيلي، الذي يواصل انحرافه نحو اليمين والتطرف، فهو داعم لجرائم حكومته وحتى هناك من يطلب المزيد.
والسند الثاني هو اختلال موازين القوى في الحلبة الدولية لصالح إسرائيل، وبالذات الدعم الأميركي، ومن عدد من دول أوروبا المركزية، وتعتبر إسرائيل نفسها حصينة في وجه القرارات الدولية، فأصلاً هذا الوضع قائم منذ 62 عاما.
ولكن في الوقت نفسه، فإنه لا يمكن أن ننفي وجود قلق في إسرائيل من الصخب القائم في العالم، فهي تشعر بتنامي الغضب في الرأي العام العالمي، وتتخوف من أن يتصاعد هذا الغضب ليصبح ضاغطا على حكومات الدول.
في هذه المرحلة، فإن بعض قادة إسرائيل باتوا يتحدثون عن quot;عزلة إسرائيلية في العالمquot;، وأن مكانة إسرائيل في العالم تتراجع، وهناك تدهور في العلاقات الخارجية بين إسرائيل وعدد من الدول، وهذه الديباجات تنتشر في وسائل الإعلام العالمية، ولكن حذارِ أن نقع في وهم، لأن واقع الحال غير ذلك، فالمطالبات الدولية الرسمية، خاصة من دول القرار، تتركز في تقديم ما يسمى quot;تسهيلاتquot; للفلسطينيين في قطاع غزة، وهذا يعني اعترافا ضمنيا quot;بشرعيةquot; الحصار التجويعي على قطاع غزة، وأن المطلوب فقط تحرير قليل من الحصار، وزيادة بعض المواد التي يسمح بدخولها إلى قطاع غزة.
بكلمات أخرى، إن الموقف الجوهري المطلوب غائب عن نص الخطاب العالمي، وهو أن على إسرائيل إزالة الاحتلال والحصار كليا.