عبد العزيز السماري

يضع بعض علماء الدين تاريخهم العلمي أحياناً في مواقف لا يحسدون عليها، ويدخل في ذلك أن يعتقد أحدهم أن بإمكانه إيقاف عجلة المجتمع من خلال فتوى غير قابلة للتطبيق، ولا يخضع لها واقع الناس وحاجاتهم.

وقد عجبت كثيراُ لذلك العالم الذي يوزع فتواه بتحريم الاختلاط على المرضى في المستشفيات، وهو بذلك يضع المجتمع في مواجهة الفتوى، إذ لا يمكن بأي حال بناء وتجهيز مستشفى خاص للذكور وآخر للإناث في كل مدينة وقرية، فالمتعارف عليه عالمياً أن نسبة الرجال في مهنة الطب يتجاوز النساء بمراحل، والعكس هو الصحيح في مهنة التمريض، وهو بذلك أعطى دليلاً وبرهاناً على أنه يعيش خارج الزمان والمكان..

المفتي المؤثر الأقرب للناس الذي يعيش بينهم ويخالطهم، ويعرف أحوالهم، وبالتالي يفهم مصاعب دنياهم ومخارجها، لكن عندما يعيش أحدهم خارج مكان الناس وحاجاتهم، تخرج مثل هذه الفتاوى، وتجعل الناس في حيرة من أمرهم.. فالفتوى غير القابلة للتطبيق تتجاوزها العامة، كما تجاوزوا غيرها، وبذلك يخسر المفتي شئ من تقديره ومكانته العلمية، وبالتدريج يخرج من درجة التأثير على المجتمع إلى الهامش، وكان الأجدر على سبيل المثال أن يدعو للاحتشام ومنع الخلوة غير الشرعية، وأن يغير من خطابه الوعظي الذي يرى في الناس أشرار يميلون إلى الرذيلة إلى خطاب يعزز الفضيلة والأخلاق الحميدة بين أفراد المجتمع، إذ لا يمكن أن نبني مجتمعاً فاضلاُ من خلال التشكيك المتواصل في أخلاقه ونياته، ولا يُعقل أن يتم تدمير البنى التحتية في المجتمع بسبب تصرفات فردية قد تحدث في أي مكان وزمان، وقيل إذا أردت أن تُطاع فأمر بما يُستطاع..

كذلك يعيش بعض المفتين ليس فقط خارج المكان، ولكن خارج الزمان، فهم يحاولون مماهاة شخصية المسلم في صدر الإسلام عند احتكاكهم مع الناس، ويدخل في تلك المماهاة اختلاف ملابسهم وطبائعهم وعن العامة، ورفضهم لمظاهر الحضارة الحديثة، عبر إصدار فتاوى متوالية ومناهضة للتقدم كتحريم التقنيات المتطورة للاتصالات وغيرها من التحولات المتسارعة في العلم الحديث، ويوجد بين هؤلاء المفتين من وصل في مماهاته مع التراث إلى حد المواجهة غير العقلانية مع التطور عندما حرم أدوات النقل والإسفلت والكهرباء، وهذا لا يعني أنني أعترض على اختياراته الشخصية، لكن أن يعتقد أن بإمكانه إرجاع المجتمع إلى وسائل النقل التقليدية مثل ركوب الحمير والمشي حافياً على القدمين في الرمضاء، وان هذه السنة النبوية، فذلك أمر غير مقبول، إذ لا يُعقل أن يكون في التعامل مع التطور التقني والمادي مناهضة للدين الحنيف.

يدخل في ذلك أيضاً إصرار بعض المجتهدين في العمل في فتوى الناس، وإن تغيرت أحوالهم الشخصية، فبعضهم أصبح صاحب مصالح تجارية ومشاريع عملاقة ويسكن القصور، ومع ذلك لا يزال يُقدم نفسه على أنه المجتهد والمفتي في أحوال الناس ومصالحهم، وفي ذلك انحياز وخروج عن المنهج، كذلك الذي لا يجد قوته ويعيش في عزله بسبب أحواله الاجتماعية والاقتصادية عليه أن لا يخوض في قضايا الناس وأن يتوقف عن الإفتاء..

قال ابن القيم ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتابه في الخلع عن الإمام أحمد أنه قال: لا ينبغي للرجل أن ينصِّب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن تكون له نيَّة، فإن لم يكن له نيَّة لم يكن عليه نورٌ ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له علمٌ وحلمٌ ووقارٌ وسكينةٌ. والثالثة: أن يكون قويّاً على ما هو فيه وعلى معرفته، والرابعة: الكفاية وإلا مضغه النَّاس. والخامسة: وهي الأهم حسب وجهة نظري: معرفة النَّاس.