احمد عياش
البرهان الجديد على عدم فاعلية الحياة السياسية الداخلية هو هذا الدفق الكبير على لبنان من مغتربين وزائرين عرب وأجانب لتمضية إجازة الصيف. فهؤلاء لا يعيرون كل الصخب السياسي الذي يجتاح وسائل الاعلام على انواعها أي اهتمام، وإلا لكانوا اختاروا عدم المجيء ومعه ترحيل ما تيسر من مقيمين طلبا للسلامة تحسباً لأخطار وشيكة ينذر بها هذا الصخب.
إذا كانت الإحصاءات تشير الى ان حجوزات الفنادق بلغت أعلى مستوياتها، والى ان اسعار العقارات سجلت أرقاماً قياسية والى ان مرقد العنزة يستحق كلمة quot;نيالوquot; لكل من له موطىء قدم في هذا البلد، فهي تعبير عن إفلاس جماعة التفتيش عن أزمات في البر والبحر والفضاء، فهؤلاء ينامون على أزمة ويستيقظون على أزمة. وإذا ما تبيّن لهم عدم صلاحية النفخ في أزمة قائمة سعوا عاجلا الى خلق أزمة جديدة. وعلى رغم كل ذلك القافلة تسير وهم يعلون اصواتهم بالأزمات.
من يراجع سجل الاعوام الخمسة التي خلت يكتشف خريطة السباق بين الأمل واليأس، وبين العمل والتعطيل، وبين السيادة والتبعية. وآخر النماذج هو ملف التنقيب عن النفط في البحر. فاذا به عنوان للسباق بين التنقيب حقيقة عن النفط وبين التنقيب عن أزمة تأخذ لبنان الى سبب جديد لإبقاء السلاح الايراني عالياً فوق سلاح الدولة، ولاتهام الواقع اللبناني السيادي الذي فاز في انتخابات نيابية في دورتين متتاليتين بأنه quot;خائنquot; لثروة لبنان البحرية النفطية! وينكشف الرياء دفعة واحدة عندما يتبيّن ان حكاية النفط تعود الى زمن الوصاية السورية عام 2003. ففي ذلك العام تحرك مشروع التنقيب عنه وانبرى معارضاً من هو اليوم مزايداً فيه.
أين هي المصلحة في إبقاء لبنان رهينة أزمات مفتعلة بدل التفتيش عن حلول لأزمات حقيقية؟ ربما يتضمن السؤال نفسه مفاتيح الجواب. فالتصدي للازمات الحقيقية يعني سلوك لبنان درب الخلاص من حقبة حفلت بالانهيارات التي جعلته في مهب الرياح الاقليمية والدولية. لذلك كان الجهد المضاد منصباً على تحويل الانتباه الى الأزمات المفتعلة. والأمثلة كثيرة منها: تحويل أزمة الفراغ الامني الناجم عن رحيل القوات السورية النظامية عام 2005 أزمة دور فرع المعلومات في قوى الامن الداخلي. وتحويل أزمة البحث عن مرجعية قضائية لكشف مسلسل جرائم الاغتيالات أزمة استقالات من الحكومة. وتحويل أزمة السلاح خارج الشرعية أزمة فاعلية الشرعية نفسها التي حاصرتها فتنة 7 أيار 2008. وتحويل أزمة إدارة الحكومة لملفات الإدارة والإقتصاد أزمة قرار تخضع فيه الأكثرية لأقلية. ويتبيّن عند الحاجة أن quot;العصيان القانونيquot; عن تحويل موارد وزارة الاتصالات الى حساب الخزينة العامة أزمة مفيدة لتحويل الأنظار عن سبل معالجة أزمة القصور في موارد هذه الخزينة!
الحقوق الانسانية للفلسطينيين أزمة حقيقية منذ أكثر من 60 عاماً. لكن طريقة طرحها أزمة مفتعلة. إلا أن المخاوف التي تثيرها ألا وهي توطين الفلسطينيين تطرح في الوقت نفسه أزمة حقيقية عمرها مئات السنين أن لم نقل آلاف الأعوام، ألا وهي أزمة توطين أهل البلاد في وطنهم. فكل هؤلاء الآتين الى الفوز بـquot;مرقد عنزةquot; في لبنا ن يمتلكون مقدرات العافية من بلاد لا تتعرض لهذا الكم الهائل من الأزمات المفتعلة التي يتعرّض لها لبنان. وكأن ابطال هذه الأزمات يسعون في نهاية المطاف الى توطين الضيوف والزائرين، وانسحاب المواطنين أمام رب المنزل الجديد بحثاً عن وطن بديل.
التعليقات