لا استقرار في العراق إلا بعد الاعتراف بكل المكونات وحقوقها

الورق يبقى الحبيب الأول والإلكترون معشوقة جديدة

لا حرية إعلامية في العالم العربي بالمفهوم العام

لا إشكالية في لبنان بين السلطة والمقاومة. فكلاهما مصادر لدى قوى في الخارج.

الواقع الطائفي والمذهبي والعرقي في العراق فرض نفسه وقواعده

quot;الجزيرة الدوليةquot; حلم طوي ربما موقتاً لأسباب تخص أصحابه

عدنان ابو زيد : يبدأ الكاتب والصحافيعبد الوهاب بدرخان يومه مع الورق وفنجان القهوة. وما يقرأه يحفزه على الذهاب الى الشاشة، و السباحة بين المواقع، بدءاً من إيلاف في معظم الأحيان، فأسبقية إيلاف طبعتها في الأذهان وأكسبتها quot;عراقةquot; الصحف القديمة بحسب تعبير بدرخان نفسه.
وفي حوار quot;إيلاف quot; معه يرى بدرخان أنْ لا حرية إعلامية في العالم العربي بالمفهوم العام، لكن هناك حالات حرية تتفاوت في الحدود والقيود، وفي المسموح والممنوع لكن بالمفهوم النسبي. وحول الوضع الطائفي المعقد في العراق ولبنان يرى أن النظام في لبنان ذاهب الى تقلبات يراد منها تثبيت هيمنة شيعية ما على حساب انقسام المسيحيين وانكفائهم. لكن لبنان يخسر من أي هيمنة، سنية او شيعية او مارونية، ويربح اذا حصل توافق يحترم التوازنات.
وحول العلاقة في لبنان بين السلطة والمقاومة، فلا يرى بدرخان إشكالية ما، فكلاهما مصادر لدى قوى في الخارج. لكنه يلمح اشكالية بين المجتمع والمقاومة، بين موروث يأخذ بالقدرات الفعلية للبلد ومكتسب يريد للبلد ان يبقى ndash; وحده - في حال حرب دائمة.
أما في العراق فلا يلمح بدرخان استقرارا للنظام في العراق إلا بعد الاعتراف بكل المكونات وحقوقها، فلا دولة الاكراد في الشمال عنصر استقرار، ولا دولة الشيعة في الجنوب، ولا الدولة المختلطة في الوسط.
ويعترف بدرخان انه من الجيل الوسيط، الانتقالي، المتصالح مع الورق والالكترون. فالحنين الى الاول يواجه منافسة شديدة من الثاني، سواء للكتابة او للقراءة.
ويعترف بدرخان.. ان الورق مسالم وهادئ، وهو يمضي ساعات مع كتاب ولا يتعب. وبالنسبة له فان الشاشة تكاد تكون عدوانية، لا تعرف الحياد بل تلحّ على التفاعل، ولا شك انها مرهقة.

بين الورق والإلكترون

- كيف تنظم وقتك بين الورق والإلكترون، وهل بدأت الصحف الالكترونية تقتطع الجزء الأكبر من وقتك، وهل تفضل قراءة الجريدة بنسختها الورقية أم الرقمية؟
- الورق يبقى الحبيب الاول. الالكترون معشوقة جديدة. احتاج الصحيفة الورقية لأتعرف أكثر، كوني صحافياً، الى العقل التحريري الذي هندسها، والى المنطق الذي اتبعه في التعامل مع الاخبار، وكذلك الى الجهد المبذول للخروج بهذا المنتج اليومي الفريد. اشعر بالورق كأنه كائن من لحم ودم. الرأي الممهور بالتوقيع على الورق لا يزال أوقع أثراً، مثل أي ورقة (او فاتورة) توقعها كدليل التزام... مع ذلك تمضي الصداقة الجديدة مع quot;المواقعquot; لتتعمق وتتوثق يوماً بعد يوم. الورق يأخذك في سفر على طائرة من ورق. الالكترون يشعرك كأنك في طائرة صاروخية جعلها quot;غوغلquot; تجوب العالم في لحظات.

ـ حين تجلس خلف الكومبيوتر كيف يبدأ انشغالاتك، ثمة من يرى أن الحنين إلى الورق باق حتى حين تقلب صفحات الإلكترون.

- أنا من الجيل الوسيط، الانتقالي، المتصالح مع الاثنين، الورق والالكترون. فالحنين الى الاول يواجه منافسة شديدة من الثاني، سواء للكتابة او للقراءة. الورق مسالم وهادئ، امضي ساعات مع كتاب ولا اتعب. الشاشة تكاد تكون عدوانية، لا تعرف الحياد بل تلحّ على التفاعل، ولا شك انها مرهقة. طبعاً يبدأ يومي مع الورق وفنجان القهوة. وما اقرأه يحفزني على الذهاب الى الشاشة، الى السباحة بين المواقع، بدءاً من إيلاف في معظم الاحيان، فأسبقية إيلاف طبعتها في الأذهان وأكسبتها quot;عراقةquot; الصحف القديمة. كلما استوقفني موضوع انقله الى ملفي او اطبعه لأقرأه لاحقا بتروٍّ. تشعرني الشاشة بضرورة أن أمضي امامها وقتاً محدداً، وإلا فاني سأغرق في لجة لا قرار لها.
ما زلت اشعر براحة وإلفة مع الورق، رغم ضيقي بأكداسه، ولم اعتد بعد التقيد بالجلوس الى الشاشة، لعل الآي-باد الجديد يحرر الشاشة من طقوس الشاشة وقيودها.

بديهيات الفكر العربي


ـ تنوعت الاهتمامات في المقالات التي يكتبها بدرخان في صحف عربية عدة حتى بدا كاتباً موسوعياً ومحللاً. كيف يلتقط بدرخان فكرة المقال، هل ثمة تأثيرات عاطفية في الاختيار؟

- من الطبيعي ان يكون هناك انفعال ما مع الموضوع الذي سيصبح مقالاً. الانفعال يشعرني بأن لدي شيئاً اريد/او يجب عليّ ان اقوله. الكتابة فعل ورد فعل. تذهلني هذه الحاجة عند العرب للعودة دائماً الى البديهيات والمسلمات، ليس في السياسة فحسب بل حتى في شؤون الدين والمجتمع والثقافة، وكأن اي شيء في الفكر العربي لم يحسم أبدا، خصوصاً في البديهيات. عندما اكتب اشعر بأن لدي مهمة، وان علي ان اشرح واوضح، ربما لأنني ذو نرجسية منخفضة التخصيب. لا أكتب لنفسي اولاً وانما لمن يرغب في ان يقرأني. ادخل في اي موضوع كشخص بعيد عنه يريد ان يعرف. تثيرني التضليلات الباردة في تصريحات السياسيين، فأحاول تشريحها وتظهير معانيها بأفكار بسيطة وباردة ايضاً. الصراخ يثير الحماس والهتاف لكن تأثيره يضمحل بسرعة. علمتني تجربتي ان القارئ يتواطأ معي ويلعب اللعبة الصامتة الهادئة، لكن المستقرة والفاعلة في الوعي.

لبنان.. السلطة والمقاومة

ـ كتبت عن quot;اشكالية ماquot; في العلاقة بين السلطة وquot;المقاومةquot; في لبنان، كيف تقرأ المستقبل اللبناني اليوم في ضوء احتمالات اندلاع الحرب من جديد؟

- لا اشكالية في لبنان بين السلطة والمقاومة. فكلاهما مصادر لدى قوى في الخارج. الاشكالية بين المجتمع والمقاومة، بين موروث يأخذ بالقدرات الفعلية للبلد ومكتسب يريد للبلد ان يبقى ndash; وحده - في حال حرب دائمة.
الموقف من اسرائيل ليس موضع خلاف بين المجتمع والمقاومة، بمعزل عما يتفوّه به ابطال التخوين والترهيب والتهويل. الخلاف هو على وظيفة لبنان ومستقبله وما اذا كان يريد ان ينخرط ولو لمرة في بناء دولة ام انه يريد ان يبقى ساحة في خدمة الآخرين، كل الآخرين، يتقاتلون فيها وعليها، يدمرونها ويسحقونها، ونادراً ما يتسالمون او يتصالحون. الخلاف ايضاً هو على من يحكم البلد، الدولة او المقاومة، والمقاومة حالياً هي التي تقرر الحرب والسلم، وفقاً لاجندة اللاعبين الاقليميين وليس وفقاً لما يواجهه البلد، أي أنها بالتالي تتحكم بحياة الناس وبوتيرة التنمية، وغداً ستتحكم بصيغة الحكم متذرعة بموازين القوى الداخلية.
لم يكن هناك اي اعتراض او مساءلة للمقاومة عندما كان هناك احتلال، وبعد زواله أصبح هناك سؤال مشروع وطبيعي: استمرار المقاومة من اجل ماذا؟ اذا كان هناك اجماع وطني على انخراط لبنان في مشروع لتحرير كامل فلسطين، او في المقاومة حتى تحرير الجولان السورية، او في المقاومة الى ان تمتلك ايران قنبلة ذرية، او... او... فلِمَ لا، اذا كان هناك اجماع او حتى مجرد توافق وطني تلقائي وحر، أما ان يُفرض على لبنان ـ وحده من دون سائر دول الطوق ـ وظيفة لم يكن يوماً معداً لها، فهذا إشكال من الواضح أنه لا يحل الا بالقوة، وأي حل بالقوة داخل اي بلد يعني فتنة دائمة. وهذا الحل حصل فعلاً وبالقوة في 7 ايار/مايو 2008.
الحرب احتمال وارد. الاستعدادات قائمة على الطرفين. المنازلة تبدو حتمية. اسبابها موجودة على اكثر من مستوى:
1) النزعة العدوانية لدى اسرائيل اصبحت ثأرية بعد الصفقة التي تلقتها في حرب 2006، 2
2) ) تطورات الازمة النووية الايرانية وقد اصبح الجنوب اللبناني احد فروعها الحيوية،
3) جمود المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية وضرورة استخدام الساحة اللبنانية للتذكير بأن هناك وضعاً احتلالياً يحتاج الى حسم،
4) عقم المفاوضات وتفاقم الاحتقانات في الوضع الفلسطيني... كلها أسباب تغذي مناخ الحرب، لكن سورية لا تحارب إلا مضطرة ودفاعاً عن ارضها وهي تحارب من لبنان، وايران كذلك، بل ان الاسرائيليين والاميركيين وكل من يرغب يريدون ان يحاربوا اولاً من لبنان وفي لبنان، واحياناً في فلسطين او العراق. اما الذريعة بالنسبة الى لبنان فهي وجود المقاومة.

الإعلام العربي

ـ هل ترى حرية في الإعلام العربي، وكيف سيرسم الفضاء الالكتروني حدود هذه الحرية؟

- بالمفهوم العام ليست هناك حرية اعلامية في العالم العربي، بالمفهوم النسبي هناك حالات حرية تتفاوت في الحدود والقيود، وفي المسموح والممنوع. السلطة والاعلام غادرا عموماً ـ إلا في 3 او 4 دول ـ حالة الارهاب والترهيب ليعيشا في حالة تحايل وتكاذب متبادلين على موضوع الحرية. صدقوا أو لا تصدقوا أن هناك صحافة في بلد عربي معين مفتقدة أي نوع من الحرية لكنها تشيد يومياً بانجازات السيد الرئيس في مجال حقوق الانسان والديمقراطية والاصلاح الى ما هنالك من ترهات تطول بها لائحة المستكرهات لدى هذا الرئيس. الاعلام المكتوب والمذاع تحت الرقابة المسبقة او المباشرة او اللاحقة. الاعلام التلفزيوني تحت التهديد بالغاء التراخيص او قطع البث او بالضغط المالي والمصرفي. اما الاعلام الالكتروني فبقيت له مساحة صغيرة يستغلها المدونون والمدونات لكن هؤلاء، باتوا يعانون المطاردات المنظمة. فالسلطات لا تنفك تتجهز للسيطرة على الفضاء الالكتروني. صحيح انها تجد صعوبة موضوعية لكن التعرض للمدونين بالايذاء الجسدي والنفسي من شأنه ان يشكل حالة ردع. مع ذلك يسجّل للالكتروني فتحه ابواباً ونوافذ لفئات وحتى لأشخاص ما كان لهم أن ينالوا يوماً رمقاً من حق التعبير من خلال الاعلام التقليدي.

الصحافة المكتوبة.. حدود الحرية


ـ قلت يوماً ان الصحافة المكتوبة quot; حُرمت من أن تعطي نموذجاً عالياً من الحرية كان من الممكن أن ينعكس على التلفزيون؛ لذلك تتجه كل الأنظار الآن نحو الإعلام الإلكترونيquot;. هل تحققت النبوءة الآن في سيادة الإلكترون؟

- جاء ذلك في سياق حديثي عن تحولات الاعلام العربي مقارنة بالاعلام في الغرب، فقد يكون تراجع الصحافة المكتوبة واحتضارها محزناً في الغرب لكن يبقى ان صحافته ذهبت بعيدا جداً في التطور والابداع، وفي التأثير والنفوذ كما لو أنها سلطة رابعة فعلاً، وبالتالي فإن انتقالها الى الالكترون يدشن تجربة جديدة سيخوضها الغرب استنادا الى انجازاته في الصحافة المكتوبة والمتلفزة. الاعلام العربي لم يتمتع ـ للأسف ـ بهذه التجربة العظيمة، لكن يحق لنا ان نراهن على الصحافة الالكترونية القائمة والقادمة، فهي تتيح لنا ان نطمح ونأمل، خصوصاً ان الظروف تتغير لتواكبها.

محاولات جادة للتدوين

ـ صنفت المدونات يوما بأنها quot;محاولات هروبquot; وحتى دارسي الإعلام يعتبرون المدونات quot;مسألة هروبquot;، بينما هي بالعكس في أميركا حيث بدأت مدونات وأصبحت مرجعاً إعلامياً... كيف يمكن تجاوز هذه الإشكالية في الإعلام العربي الإلكتروني؟
- المدونات في الغرب نجحت وأصبحت تستقطب الاهتمام، لأنها استندت الى كون quot;الخبرquot; غير مقيد وغير مطارد وغير محجور عليه. لذلك يُعتمد على المدونات في التحليل والاستشراف وأيضا في كشف ما وراء الخبر، كما ان المدونات الناجحة والمؤثرة يحررها اشخاص ذوو علم وخبرة وبالتالي ذوو رأي، أي ان هذا التدوين لا يعتمد فقط على المخيلات او التمنيات خصوصاً اذا كان يتعاطى مع الشأن العام. أما مدونات الرأي الشخصي فتستفيد في الغرب من وجود مساحة حرية واسعة اصلاً، وكلما كان الرأي المدون واعياً وحراً ومحترماً للمعلومات كلما شق طريقه الى الناس.
في العالم العربي محاولات جادة للتدوين، بمقدار ما ان هناك خلطاً بينها وبين التضليل والاشاعات. التدوين عملية اعلامية تستطيع ان تتحرر من قيود الاحتراف، لكنها لا تستطيع ان تشترط الى ترويج أي كلام والسلام. وفي كل الاحوال يجب ان يبقى الخبر محترماً ونظيفاً لكي يتمكن المدونون من الاضاءة عليه بما يعرفون عنه اكثر او بما لديهم من رأي يحترم ذكاء الناس وتوقهم الى معرفة المزيد او حتى الى التزود بما يساعدهم على تكوين موقف ورأي آخر.

المرض الطائفي

ـ الديمقراطية واللعبة الطائفية في العراق ولبنان، كيف توجز quot;الاشكالية الطائفيةquot; في البلدين لاسيما أنك تطرقت في اكثر من مقال إلى الموضوع؟

- تعرّف اللبنانيون الى المرض الطائفي في جسم بلدهم منذ احداث 1860. وقارب العراقيون هذا المرض من دون ان يعترفوا به منذ الربع الاول من القرن العشرين. في لبنان وجدت صيغة توافق مواكبة للاستقلال عام 1943، لكنها مرّت ولا تزال تمر بهزّات وحروب خصوصًا بسبب استغلال قوى اقليمية واجنبية للتناقضات الطائفية. في العراق، بعد الغزو عام 2003 وحتى الآن، ورغم كل ما حصل ويحصل، هناك رفض للاعتراف بالطائفية والمذهبية، وهو رفض يصدر عموماً عن أشخاص حسني النية لكنه يصدر احياناً عن اكثر المشتغلين بالطائفية تعصباً وانحيازاً.
النظام في لبنان ذاهب الى تقلبات يراد منها تثبيت هيمنة شيعية ما على حساب انقسام المسيحيين وانكفائهم. لكن لبنان يخسر من أي هيمنة، سنية او شيعية او مارونية، ويربح اذا حصل توافق يحترم التوازنات. لبنان يحتاج الى ان يبقى وجهه مسيحياً ليبقى متميزاً ومنفتحاً. لكن هذا الوجه بات مصادراً الآن ولم يعد مصدراً للتمايز.
النظام في العراق لن يستقر إلا بعد الاعتراف بكل المكونات وحقوقها فلا دولة الاكراد في الشمال عنصر استقرار، ولا دولة الشيعة في الجنوب، ولا الدولة المختلطة في الوسط. هذا النظام لا يزال في مخاض، ولا بد ان يشهد متغيرات بعد الانسحاب الاميركي. سنرى عندئذ الى اي مدى سيتحلى العراقيون بالمسؤولية وسيمارسونها. للأسف، العراق يشهد ايضا كل انواع التدخلات الخارجية التي يعرفها لبنان، بل لعلها اكثر سوءاً.
المشكلة في العراق ولبنان ان تعدد الولاءات والأجندات بدد كل امكانية لولادة وطنية تصهر الجميع في مشروع واحد.


مشروع quot;الجزيرة الدوليةquot;


ـ بدأت مسيرتك الصحافية في quot;النهارquot; في بيروت في بداية السبعينات، وغطيت ميدانياً بدايات الحرب الأهلية. وفي العام 1988 شاركت في تأسيس جريدة quot;الحياةquot; في لندن. عبر هذه التجربة، كيف ترسم العلاقة بين السلطة والمثقف؟

- مع احترامي لصحف عربية عديدة استطاعت ان تحقق نجاحات، أشعر باعتزاز خاص لكوني عملت في الجريدتين العربيتين اللتين اعتبرهما الأفضل على الاطلاق، مع اختلاف شخصيتيهما واسلوبهما. وكان لدي طموح بأن أؤسس جريدة بالمستوى نفسه لو اتيح لمشروع quot;الجزيرة الدوليةquot; أن يمضي قدماً. اعتقد ان كلاً من quot;النهارquot; وquot;الحياةquot; شكلت تجربة او quot;مدرسةquot; كما يمكن ان يقال. وفيهما اختبرت ما يمكن ان نسميه quot;الحرية المسؤولةquot; من وجهة نظر صحافية، لا بالمعنى الملتبس الذي تستخدمه الحكومات عندما تسعى الى تبرير الرقابة التي تفرضها على وسائل الاعلام.
تجربتي في الجريدتين علمتني ان الصحافي يجب ان يكون قادراً ومقبلاً بل محكوماً بأن يكون متواصلاً مع الجميع، مع السلطة، أي سلطة، ومع الآخرين بمعزل عن المشاعر والافكار المسبقة. لا يمكنك ان تفرض على السلطة احترامك اذا لم تعاملها ايضاً باحترام. ليس هناك توازن ولا ندية. فلكل من الطرفين دوره ووظيفته. الثقة بينهما ممكنة وواردة لكن بحدود. ليس لصاحب السلطة ان يطمئن الى quot;تعاونquot; الصحافي، وليس للصحافي إلا إن يمحص ويفحص كل ما يصدر عن صاحب السلطة. هذه العلاقة المقلقة وغير المستقرة هي الوحيدة الممكنة، الصداقة واردة اذا شعر الصحافي بأن صاحب السلطة يحترمه ولا يدلي اليه إلا بأقل قدر ممكن من التضليلات، وأيضاً اذا لمس الصحافي حسن نية صاحب السلطة في تعاطيه مع الشأن العام وفي نظرته الى الناس. السلطة في النهاية آلة ضخمة تعمل وتصدر الكثير من الضجيج ليعلو على كل الاصوات وعلى الصحافي ان لا يؤخذ بهذا الضجيج او يساهم فيه.

التمويل والإستقلالية


ـ في حوار أجرته معك جريدة quot;الرأيquot; الكويتية قلت ان حلم أي صحيفة أن يكون لها تمويل مريح جداً وسقف سياسي جيد واستقلالية تامة، ترى هل تحقق ذلك لبعض الصحف العربية أم لا، حتى الالكترونية منها؟

- نعم، قلت ذلك في بداية السعي الى اصدار جريدة quot;الجزيرة الدوليةquot; التي كانت شبكة الجزيرة القطرية تعتزم اطلاقها. كان ذلك حلماً داعب مخيلة مئات من الاعلاميين الشباب والمخضرمين في العالم العربي. لكن المشروع طوي ربما موقتاً لأسباب تخص اصحابه ولا تتعلق بي. بطبيعة الحال ما زلت اعتقد ان عناصر التمويل والسقف السياسي والاستقلالية شروط قائمة وصحيحة للجريدة الورقية، كما للاعلام التلفزيوني والالكتروني. وأكون ساذجاً اذا اعتقدت للحظة ان هذه المعادلة لا تشمل أيضا المصالح والأغراض الخاصة، السياسية وغير السياسية. لكن الممول الحكيم يعرف أنه لا يحقق مصالحه الا اذا جاء المنتج الاعلامي عالي المهنية وواضح المصداقية. ومشكلة الاعلام العربي ان مموليه كانوا في معظم الاحيان من محتقري الاعلام ومسترخصيه مع انهما تأكدوا بالتجربة من أهميته وخطورته. المرات القليلة جداً التي عرف فيها الاعلام العربي ممولين محترمين ويكنّون له حداً أدنى من الاحترام نجحت في تقديم نماذج لا تزال علامات فارقة في تاريخه القديم والحديث.

العراق: تغيير من دون تغيير


ـ بالنسبة الى العراق، قلت إن quot;الحكومة المقبلة ستكون بالضرورة ائتلاف محاصصةquot; وقلت أيضاً quot;العراق: تغيير من دون تغييرquot;... ترى هل ما زال الأمر فعلاً من دون تغيير، وكيف تقرأ المستقبل العراقي من الآن؟

- من لديه صيغة أخرى غير المحاصصة فليتفضل... الواقع الطائفي والمذهبي والعرقي فرض نفسه وقواعده. لو كان هناك مشروع وطني ومشروع دولة لما كان هناك داع لاعتبار المحاصصة معيبة او مسيئة لكرامة العراقيين، فهي ستأتي في اطار توافق على توزيع المهمات كما في اي ائتلاف في أي بلد طبيعي. لكن انظروا الى هذا التهافت الذي حصل لنزع أي ميزة للكتلة quot;العراقيةquot;، لمجرد ان لها نكهة غير طائفية، أو لمجرد انها تضم اشخاصاً ذوي نعرة سنية، ولا ينظر الآخرون الى النعرة الشيعية او الكردية التي يسوسون بها شؤون العراق. كل المناورات التي شهدناها ونشهدها منذ الانتخابات تهدف الى اثبات ان شيئاً لم يتغير بفعل الانتخابات، وستستمر المناورات لإفراغ هذا التغيير من أي مضمون يمكن ان ينعكس على التركيبة الحكومية. ولا شك ان الخريطة السياسية لا تزال تخدم مصالح الهيمنة المذهبية. للأسف، يبدو العراق، عراق الشعب وعراق الدولة للجميع، كاليتيم على مائدة اللئام.


عبد الوهاب بدرخان


كاتب ومحلل سياسي- لندن


حائز دبلوم الدراسات العليا في الإعلام من جامعة باريس.


عمل محرراً في جريدة quot;النهارquot; من 1974-1979.


انتقل إلى جريدة quot;الحياةquot; منذ إعادة صدورها من لندن 1988، ثم عمل مديرا لتحريرها ونائباً لرئيس التحرير.


له أبحاث جامعية متخصصة في تحليل أوضاع الصحافة العربية