محمد صادق دياب

عالم الجاسوسية قديم قدم التاريخ، عرفه الفراعنة، والإغريق، والرومان، والصينيون، وطوره بعد ذلك الألمان والإنجليز والأميركان، وبرز فيه لاحقا الروس بصورة لافتة، ومنذ انتهاء الحرب الباردة ظن الكثيرون لفترة أن نشاط الجاسوسية يمكن أن ينتهي بين القطبين الكبيرين أميركا وروسيا، لكن الواقع يشير إلى أن حمى الجاسوسية لم تزل مستعرة، وأن الروس عادوا لمزاولة لعبتهم المفضلة، فهم منذ بزوغ نجم فلاديمير بوتين، ضابط الـlaquo;كي جي بيraquo; السابق، يجدون فيه مصدرا من مصادر إلهامهم، وإعلان أميركا مؤخرا الكشف عن شبكة التجسس الروسية بقيادة الشابة الحسناء آنا تشابمان، أو laquo;فتاة جيمس بوندraquo; كما أطلقت عليها الصحافة الأميركية، يؤكد أن الجاسوس الروسي كالزمّار، يموت وأصابعه تلعب، فمن الصعب على روسيا الإقلاع عن لعبتها القديمة مهما تعالت أصوات السياسيين بالحديث عن الوفاق.

وحضور الحسناوات في الجاسوسية الروسية يعد خروجا على تقاليدها المخابراتية التي عرفت تاريخيا باعتمادها على الرجال، لكنها - بحسب ضابط الاستخبارات الروسي المنشق قسطنطين بريوبراجنسكي - تحولت منذ حكم فلاديمير بوتين إلى الاعتماد على الكثير من الجميلات، اللواتي ينتشرن في كل أنحاء العالم تحت أغطية متعددة: ثقافية وفنية واقتصادية وسياحية، ومنهن الكثيرات في العالمين العربي والإسلامي، وهذا التغيير في اللعبة الروسية يجعلها منافسا حقيقيا للموساد الذي يعتمد على لعبة الحسناوات في الكثير من عملياته حول العالم، وبعض جميلات الموساد تبوأن لاحقا مواقع سياسية هامة في الحكومة الإسرائيلية. وللجاسوسية الروسية الكثير من الانتصارات على المخابرات البريطانية، وقصة تجنيد روسيا لأشهر رجال المخابرات البريطانية، كيم فيلبي، شكلت في حينها حرجا كبيرا لكبرياء بريطانيا، كما أن للجاسوسية الروسية اختراقاتها أيضا للمخابرات الأميركية، وأهمها تجنيد هارولد نيكولسن، الضابط في وكالة الاستخبارات الأميركية، الذي واصل عملية تجسسه من داخل سجنه في ولاية أوريغون عبر ابنه الذي يأتي لزيارته.

وعودة حرب الجاسوسية تأكيد لاستمرار أهمية المعلومة في عصر العولمة، خصوصا أن التجسس الحديث لم يعد وقفا على المعلومة السياسية أو العسكرية فحسب، ولكنه امتد إلى جوانب أخرى اقتصادية، وعلمية، واجتماعية. وحصاد الجاسوسية له استخداماته الكثيرة، ومنها: تدمير الأمن النفسي للمجتمعات المستهدفة عبر نشر الشائعات، والتأثير على الرأي العام، وفضح الأسرار، وخلق حالات إرباك، وإذا ما قدر لأميركا كشف الأدوار التي قامت بها فتاة جيمس بوند، آنا تشابمان، فقد يعرف العالم كيف كانت الثعالة laquo;أنثى الثعلبraquo; تنصب شبَاك مكرها لاصطياد المعلومات في عقر دار الخصم، وأي هفوة قادتها إلى الوقوع في الفخ، وإن كان الحديث عن الجاسوسية في العالم الغربي غدا أمرا مألوفا، فالكل يتجسس على الكل، حتى الأصدقاء يتجسس بعضهم على بعض، وهذا ما يفسر القبض على جواسيس إسرائيليين في الولايات المتحدة، رغم كل ما يربط أميركا بإسرائيل.

إنه العمل القذر حقا.