بشير موسى نافع

بعد شهور طوال من انعقاد الانتخابات البرلمانية الثانية في آذار/مارس الماضي، لم يزل التدافع على تشكيل الحكومة العراقية مستمراً. وبعجز السياسيين العراقيين عن التوافق على رئاسة الحكومة الجديدة وبنيتها، وانتقال الحكم في صورة شرعية وسلسة، وتراجع الاهتمام الامريكي بالشأن الداخلي للعراق، تزداد أهمية الأدوار التي تلعبها دول الجوار العراقي. الواضح، بالطبع، ولأسباب عديدة، أن إيران تمسك بمقاليد الدور الأكثر أهمية في العراق، وأنها تبذل جهداً هائلاً، سواء من ناحية الإمكانات التي توفرها لدعم وتعزيز هذا الدور، أو من ناحية الوقت الذي يكرسه المسؤولون والدوائر الرسمية للملف العراقي. وإلى جانب إيران، وإن بتأثير أقل نسبياً، بدأت تركيا خلال الفترة القصيرة الماضية تعمل في صورة ملموسة من أجل التواجد في الساحة العراقية. وبالرغم من الاتهامات المتكررة التي وجهتها إدارة بوش لسورية، فالحقيقة أن دمشق لم تمارس دوراً مميزاً في العراق خلال السنوات التي تلت الغزو والاحتلال. ولكن رغبة سورية الكبيرة في التخلص من المالكي، وتحسن موقعها الإقليمي، وعلاقاتها الوثيقة بإيران وتركيا، يضعها في موقع مؤثر في التدافعات التي يشهدها العراق الآن.
في المجمل، يمكن القول ان الدوافع خلف الاهتمام بالعراق هي في جوهرها دوافع استراتيجية، بالرغم من وجود اختلاف واضح في مقاربة كل من إيران وتركيا للشأن العراقي. بنت إيران سياستها تجاه العراق منذ البداية على أساس طائفي، وجعلت من التحالف مع القوى السياسية الشيعية أداتها الرئيسية للتأثير السياسي والأمني والاقتصادي. ولكن تركيا اختارت نهجاً أكثر شمولاً، سواء في علاقاتها بكافة القوى السياسية والفئات، أو من حيث تأييدها لإعادة بناء الدولة العراقية على أساس وطني. ولكن الموقف السوري من العراق شابه دائماً قدر من الغموض وعدم الوضوح.
كما إيران وتركيا، يحمل العراق أهمية استراتيجية كبيرة لسورية. تعتبر سورية والعراق دولتي الثقل في الحزام الشمالي للجزيرة العربية؛ ومنذ ولد الكيانان في أعقاب الحرب العالمية الأولى وهما يتنافسان على الدور والقرار. كلاهما كان يدرك أن لا مستقبل لأحدهما دون الآخر، وأن وحدة البلدين ضرورة حيوية؛ ولكن أحدهما لم يكن لديه الاستعداد لتسليم قياده للآخر، بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم. هذا، ناهيك عن التدخلات الخارجية الكثيفة في العلاقات بين بغداد ودمشق. وربما كان انفجار المالكي الأخير ضد سورية، بعد ساعات من زيارة هامة وناجحة لدمشق وتوقيعه عددا من الاتفاقيات الاستراتيجية مع الحكومة السورية، نموذجاً لنمط التقلبات التي وسمت العلاقة بين البلدين بسماتها. ولكن دوافع سورية في العراق ليست استراتيجية وحسب؛ فبالرغم من تراجع الالتزامات القومية للأنظمة العربية، لا تزال سورية تحرص على الوجه العربي القومي لمواقفها وسياساتها. وربما يمكن القول أن موقف سورية المعارض للغزو الامريكي للعراق، الموقف الذي وضع نهاية للتحالف العربي الثلاثي بين سورية ومصر والسعودية، أسس على اعتبارات استراتيجية وقومية في الآن نفسه. فقد أدرك السوريون من البداية أن الغزو الامريكي للعراق واحتلاله، سيشكل خطراً كبيراً على سورية، قبل أي دولة من دول جوار العراق الأخرى؛ كما وجدوا من الصعوبة بمكان تأييد الغزو، أو السكوت عليه، من وجهة النظر العربية القومية.
رفض سورية للغزو، وغضها النظر في بعض الأحيان عن حركة عناصر المقاومة العراقية عبر الحدود، عززا من صورتها العربية القومية. وبفشل المشروع الامريكي في العراق، حرص حتى حلفاء الامريكيين في بغداد على بناء علاقات وثيقة مع دمشق. القيادة السورية، من ناحيتها، تعاملت مع النظام العراقي الجديد من وجهة نظر واقعية وبراغماتية، ليس خشية من رد الفعل الامريكي وحسب، ولكن أيضاً لشعور دمشق أن لا مفر للعراق في النهاية من العودة إلى الدائرة العربية. وقد ساهم التغيير المتسارع في المناخ الاستراتيجي الإقليمي، سواء من حيث العلاقات مع طهران وأنقرة، أو من حيث الهزيمة الإسرائيلية في لبنان وفي الحرب على غزة، في تعزيز الثقة السورية بالنفس، وتوفير مساحة أكبر للتأثير السوري في العراق. ونظراً لأن الدولتين الأخريين من دول الجوار، اللتين تبديان أهتماماً واضحاً بالعراق، هما إيران وتركيا، وأن علاقات سورية بكلتيهما تكاد تصل إلى حد التحالف، فمن المفترض أن لا تستشعر دمشق حرجا ما في سياستها تجاه العراق. بل أن مثل هذا الوضع، يمكن أن يعطي للموقف السوري في العراق أهمية مضاعفة في حال اصطدمت التوجهات الإيرانية والسورية.
من وجهة النظر الاستراتيجية، لابد أن تكون لسورية مصلحة كبرى في استقرار العراق، في الحفاظ على وحدته، وفي عودته إلى مجاله العربي. فبالرغم من أن إيقاع الهزيمة بالامريكيين وإفشال مشروعهم في العراق صب في مصلحة سورية، فإن استمرار العنف في العراق بات مصدر تهديد لجواره العربي والإسلامي، بما في ذلك سورية. يحمل العنف مخاطر تصاعد التوتر الطائفي في المشرق، ويمكن أن يوفر مناخاً مواتياً لعودة تيارات المعارضة الإسلامية المسلحة، أو اتساع نطاق العنف القومي الكردي. ويواجه العراق منذ بداية الاحتلال مخاطر التشظي والانقسام، ليس فقط بفعل تمتع المنطقة الكردية في الشمال بحكم ذاتي واسع الصلاحيات، بل أيضاً لأن المجلس الأعلى، إحدى القوى الشيعية الرئيسية ما يزال يدعو إلى بناء الدولة العراقية على أسس فيدرالية، تبدو أقرب إلى الكونفدرالية السياسية منها إلى اللامركزية الإدارية. وسورية هي أيضاً مجتمع متنوع من العرب والأقلية الكردية، ومن المسيحيين والمسلمين، ومن السنة والعلويين والدروز. وبالرغم من نجاح الدولة السورية خلال العقود الأربعة الماضية في تعزيز اللحمة الوطنية السورية، فإن انشطار العراق على ذاته لن يترك دولة في الجوار محصنة من مواجهة المصير نفسه. وليس ثمة شك، أن تعزيز روابط العراق العربية يضيف ثقلاً استراتيجياً جديداً لسورية، مهما كانت التوترات العراقية السورية التقليدية؛ فقد شارك العراق في أغلب الحروب العربية الإسرائيلية، وحتى في أشد مراحل العلاقات توتراً، اعتبر العراق رافداً بالغ الأهمية للاقتصاد السوري.
يشير مثل هذا الفهم للصلات السورية العراقية، ولرؤية دمشق للأمور، إلى أن أهداف السياسة السورية في العراق لابد أن تتمحور حول: انتهاء الاحتلال الامريكي للعراق في أسرع وقت ممكن؛ إستعادة العراق لحمته الوطنية وتراجع التيارات والقوى الطائفية - السياسية والقومية الانقسامية؛ وضع حد للتدخلات الخارجية في الشأن العراقي؛ نجاح العراق في القضاء على قوى ومجموعات العنف المسلحة ذات التوجه الطائفي أو الإثني؛ وتحرك العراق السريع نحو التعافي الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق الاستقرار. والواضح أن الزيارات المتكررة التي قامت بها الوفود السياسية العراقية لدمشق، سيما خلال الأسابيع القليلة التي تلت إعلان نتائج الانتخابات، قد سمعت من القيادات السورية مثل هذه التوجهات. ولكن ما أن تعقدت المفاوضات حول تشكيل الحكومة العراقية الجديدة حتى برزت توجهات مختلفة في دمشق. فبدلاً من أن تدعم دمشق حكومة عراقية تقودها الكتلة ذات التوجه الوطني والعربي، يروج في سورية لمرشح المجلس الأعلى لرئاسة الحكومة، بل ويقوم المسؤولون السوريون بالضغط على القيادات العراقية التي تتردد على دمشق من أجل تخلي القائمة العراقية عن حقها الانتخابي في رئاسة الحكومة ودعم مرشح المجلس الأعلى.
يثير الموقف السوري الجديد أسئلة كبيرة في الساحة العراقية وفي بعض الأوساط العربية والسورية. فمن ناحية، يعتبر المجلس الأعلى واحداً من أكثر القوى السياسية العراقية طائفية وأقلها حرصاُ على هوية وانتماء العراق العربي؛ ودعوة المجلس وتبنيه لفكرة الدولة الفيدرالية تتعارض كلية مع كل من يرغب ويعمل من أجل محافظة العراق على وحدته. ومن ناحية أخرى، يبدو الخيار السوري في العراق وكأنه يغلب العلاقة السورية الإيرانية على العلاقة السورية التركية، في الوقت الذي يمكن لسورية أن تلعب دوراً أكثر إيجابية في تقريب وجهات النظر بين حليفيها الكبيرين، وبالتالي في تخفيف حدة التدخلات الخارجية في الشأن العراقي. كما يبدو الخيار السوري وكأنه يتجاهل المصالح العربية القومية في العراق، التي اعتبرت دائماً إحدى المحددات الرئيسية للسياسة السورية. المشكلة الأبرز في هذا السياق أن من الصعب إيجاد تفسير منطقي ومتماسك للموقف السوري؛ كما أن من الصعب العثور على مادة إعلامية رسمية سورية توفر توضيحاً لهذا الموقف، سيما أن من تقاليد الإعلام السوري بكافة وسائله لعب دور الشارح والمسوغ للسياسات الحكومية.
ولأن أغلب عناصر الطبقة السياسية العراقية الجديدة تورط على هذا النحو أو ذاك في العلاقة مع الامريكيين قبل الاحتلال وبعده، فمن العسير اعتبار سجل المرشحين الامريكي بين محددات الموقف السوري. وبالرغم من أن العلاقات والاعتبارات الشخصية تحتل موقعاً هاماً في السياسة العربية، فمن المعروف أن لدمشق علاقات وثيقة بأغلب السياسيين العراقيين، اللهم باستثناء رئيس الحكومة المنتهية ولايته، نوري المالكي. صعوبة العثور على تفسير منطقي للموقف السوري، قد يفتح الباب للتفسيرات التآمرية، والطائفية منها على وجه الخصوص؛ وهذا ما ينبغي على دمشق تجنبه أو حتى السماح ولو بنافذة صغيرة لبروزه. فكما تمثل أزمة العراق امتحاناً لأهله، وللعرب والمسلمين، هي امتحان لا يقل أهمية للسياسة السورية.