محمد الحمادي

قضى علماء دار الإفتاء المصرية شهوراًَ من وقتهم وحياتهم في البحث والدراسة من أجل إنهاء الجدل حول مصير والدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوصلوا بعد جهد وعمل إلى أنهما quot;ناجيانquot;، وأعدت أمانة الفتوى في الدار بحثاً، رداً على سؤال بصحة الكلام مآل والدي الرسول، واستدل العلماء على ذلك بأنهما quot;مِن أهل quot;الفَترةquot;، لأنهما ماتا قبل البعثة. لكن لماذا يضيع علماء الدين وقتهم في مسائل مضى عليها أكثر من 1400 سنة ولن تغير الإجابة عليها أي شيء؟

وفي السعودية كانت آخر صيحات الفتوى الدينية عندما طالب الشيخ عبدالرحمن البراك، وهو أستاذ العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقاً، بعدم جواز كشف المرأة شعرها ورقبتها أمام بنات جنسها في الحفلات والأعراس والمدارس، معتبراً ذلك مدخلاً quot;من مداخل الشيطانquot;! ومن جديد تظهر لنا مشكلة بعض رجال الدين مع المرأة فبقدر ما احترم الإسلام المرأة وأعطاها حقوقها وأكرمها بقدر ما نرى كيف أن بعض أصحاب الفكر الديني المتشدد لا يريدون أن يروا المرأة إلا كائناً منغلقاً على نفسه بعيداً عن مجتمعه بل حتى عن بني جنسه. ففي أي شرع وأي دين وأي عرف يمكن أن يتحقق ما يطالب به البراك؟!

يبدو أن بعض العلماء المتشددين في الدين ينسون حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم quot;إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُواquot;. ويبدو أن فئة المفتين الذين غلبهم الدين تزداد يوماً بعد يوم ويكتشفهم الناس الذين بدؤوا يعرفون أنهم ظلوا لسنوات طويلة من حياتهم يستمعون إلى آراء شخصية لرجال يعرفون من الدين بعضه ثم يفتون في كل شيء حسب رأيهم ومن منظورهم الشخصي وبعيداً عن سماحة الإسلام ويسره.

الشيء المحزن فيما يفعله أولئك المفتون المتشددون أنهم يضيعون حياة الناس ومستقبلهم بفتاويهم هذه التي تجد من يتبعها ظناً بأنها فتاوى صحيحة. ومشكلة هذه الفتاوى أنها تسببت في تراجع هذه الأمة وتخلفها مئات السنين. ويجب أن يعرف أفراد المجتمع وأن يقتنعوا بأن إخضاع كل أمور الحياة لمنطق الحلال والحرام والبحث عن الإجابات عند المفتين حتى تلك الأسئلة المتعلقة بالصحة والعلوم والاكتشافات وحتى الأسئلة الشخصية الخاصة أمر غير صحيح فالمجتمعات المتقدمة تحترم الاختصاص وتسير إلى المتخصص فالزمان الذي كان فيه حلاق الحارة هو طبيبها قد ولى ولن يعود.

وعلى المجتمع أن يتجاوز مرحلة البحث عن فتوى لكل شيء ومن عند أي شخص، فليس كل من حفظ القرآن الكريم أو كل من تخرج من كلية دينية يحق له أن يفتي. أما من يحق له الإفتاء فهو كذلك يجب أن لا يفتي في كل شيء وإنما يركز فتاويه على الأمور الدينية المتعلقة بالعقيدة والعبادات والأخلاقيات العامة. أما الأمور الأخرى quot;كالفوفوزيلاquot; فليست من شأن المفتين. وقد يعتبر البعض أن الإفتاء الديني فيها quot;حرامquot;، فلا يجوز الإفتاء في هذه الأمور على الرغم من أن هناك من يعتقد بل ويصر على أن الفتوى والدين يجب أن يتدخلا في كل شيء.

وهنا ينبغي الاعتراف بأن آفة هذه الأمة في فتاوى بعض quot;علمائهاquot; المتشددين. وآفة علماء هذه الأيام أنهم يفتون في كل شيء. وآفة فتاوى هذه الأيام أنها متشددة وبعيدة عن روح الإسلام الحنيف واليسر والتسامح. فالتشدد في الدين هو مشكلة العصر ولن تتقدم الأمة إلا بالتخلص من المفتين المتشددين وفتاويهم والتخلص من فرض الوصاية على عقول الناس وحياتهم العامة والخاصة.

بعض الدعاة والمفتين السابقين امتلكوا الشجاعة وغيروا وعدلوا من مواقفهم وقناعاتهم وطريقة تفكيرهم في الدين وطريقة تعاملهم مع الناس وأمور الحياة وبالتالي طريقة تعاملهم مع الفتاوى فأصبحوا أكثر قرباً من الواقع ومن حياة الناس اليومية. وبعضهم متردد يتقدم خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الخلف، وآخر مصر على ما وجد عليه من سبقه ويسير على الدرب كيفما كان! وبعض هؤلاء يعتقد أن اعتداله تراجع في المواقف والمبادئ والثوابت، وهذه ليس الحقيقة، فما زال عندنا من هم حريصون على الدين ولكن باعتدال ودون تطرف أو تشدد وهذا ما يجب أن يعمل عليه كل من يعتبر نفسه مخلصاً لدينه ووطنه