فهمي هويدي

إلى جانب الشعور بالمهانة الذي ينتابني كلما قرأت أن نتنياهو قادم إلى مصر، فإن سؤالين يلحان عليّ في كل مرة. الأول هو: هل انفصلت علاقات القاهرة بتل أبيب عن الممارسات الإسرائيلية في الأرض المحتلة؟ ــ أما الثاني فهو: هل أصبح التناقض العربي العربي أكثر استعصاء على الحل من التناقض العربي الإسرائيلي؟
سمِّ هذا الشعور ما شئت، لكني لا أزال غير مصدق حتى الآن ــ رغم مضي أكثر من ثلاثين عاما على توقيع معاهدة كامب ديفيد ــ أن أبواب مصر أصبحت مفتوحة على مصارعها أمام الزعماء الإسرائيليين وجميعهم بلا استثناء من القتلة ومجرمي الحرب، ولا أزال أعتبر أن قدومهم إلى مصر ليس فقط بمثابة كابوس أو حلم أسود لابد أن يزول يوما ما، ولكنه أيضا يعد خصما من رصيدها، وإهانة لشهدائها وشعبها وانتمائها.
هذه الكلمات ليست تنفيسا عن شعور مختزن فحسب، ولكنها أيضا وثيقة الصلة بالسؤال الأول. ذلك أنني لم أفهم حتى الآن أن يفعل الإسرائيليون ما يشاؤون من أفعال بحق الفلسطينيين، ثم يغسل قادتهم أيديهم من دمائهم ومن آثار الجرائم التي لا يكفون عن ارتكابها ويحزم بعضهم حقائبه ويأتي مبتسما إلى القاهرة، أو شرم الشيخ، حيث يرحب به كأي صديق أو ضيف محترم، أعني أنني لم أفهم كيف يمكن أن تواصل إسرائيل سياستها الاستيطانية التوسعية وتستمر في تهويد القدس وهدم بيوت الفلسطينيين فيها، وتقنن طرد عشرة آلاف من أبناء غزة من الضفة الغربية وتخدع الجميع بمزاعم تخفيف الحصار، في حين تستمر في سياسة تركيع غزة وإذلالها ولا أفهم أن تنقض على قافلة الحرية في المياه الدولية وتقتل تسعة من المتضامين مع الشعب الفلسطيني، وفي الوقت ذاته تبتز الفلسطينيين وتدعوهم إلى لعبة المفاوضات العبثية. ويظل همها أن تأخذ ولا تعطي وتناور ولا تلتزم، لا أفهم أن يحدث ذلك كله ثم يستقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي في مصر للتشاور حول دفع مسيرة laquo;السلامraquo;، أفهم أن ينخدع به ويصدقه الرئيس الأمريكي لأن عينيه على انتخابات الكونجرس في الخريف القادم التي يحتاج فيها إلى دعم laquo;اللوبيraquo; الصهيوني، لكني لم أفهم لماذا نغمض نحن أعيننا على ممارساته ونفتح له صالة الشرف في مطاراتنا، بحيث يستخدم الموقف المصري في الضغط على الفلسطينيين والاستمرار في خداعهم، بدلا من أن يكون الموقف المصري عنصرا ضاغطا على إسرائيل.
إذا لم تعد تعنينا كرامة الفلسطينيين ولا مصالحهم، فإن الدفاع عن كرامة مصر وهيبتها وتاريخها وشهدائها، ذلك كله يستحق أن يدافع عنه، بوقفة تلتزم بالحد الأدنى من الغيرة والعزة ولا أقول النخوة، ولدينا خيارات عدة عند ذلك الحد، من بينها الإعلان صراحة عن إغلاق أبواب مصر في وجوه القادة الإسرائيليين، وليس مجرد تأجيل زياراتهم، حتى تستجيب حكومتهم لمطالب الفلسطينيين الراهنة، وفي مقدمتها فك الحصر ووقف الاستيطان.
وللأسف فإن عدم التزامنا بذلك الحد الأدنى يكاد يرد بالإيجاب على فكرة انفصال علاقات البلدين عن ممارسات إسرائيل في الأرض المحتلة.
هذه الخلفية تستدعى السؤال الثاني، الذي تكمن في عمقه حقيقة صادمة وهى أن العلاقات الرسمية بين القاهرة وتل أبيب أصبحت في الوقت الراهن أفضل من علاقات القاهرة ودمشق. وأضع أكثر من خط تحت كلمة laquo;الرسميةraquo; لأنه لا وجه للمقارنة بل لا ينبغي أصلا أن نضع علاقات مصر وسوريا على قدم المساواة مع أية علاقات أخرى بين مصر وإسرائيل، لكن الحاصل للأسف أن أبواب مصر الرسمية باتت مفتوحة أمام نتنياهو وموصدة أمام الرئيس بشار الأسد، رغم أنني لا أعرف على وجه الدقة الطرف المسؤول عن ذلك الإغلاق، إلا أن النتيجة الظاهرة تعطي انطباعا بأن ما كان بين مصر وإسرائيل أمكن تجاوزه، أما الذي بين مصر وسوريا فلا يزال من الصعب تجاوزه، مما يعد قرينة على أن التناقض العربي العربي في هذه الحالة بدا أعمق وأكثر تعقيدا من التناقض العربي الصهيوني!
من المفارقات في هذا السياق أن الجميع يتحدثون عن المصالحة ورأب الصدع الفلسطيني، لكن أحدا لا يتحدث في الانقسام العربي الذي تجسده القطيعة الراهنة بين القاهرة ودمشق، إذ أزعم أن أسبابه الحقيقية هي ذاتها التي تقف وراء الانقسام الفلسطيني، من ثم فإن المرء لا يستطيع أن يخفي دهشته إزاء التركيز على علاقات غزة ورام الله، في حين أن المشكلة تكمن في علاقات القاهرة ودمشق. إن أبالسة السياسة الذين يعبثون بمقدراتنا لا يريدون لمعين مفارقات وغرائب السياسة في العالم العربي أن ينضب. وبعضنا يستريحون إلى ذلك فيما يبدو!