مطاع صفدي
متى يعجز الفكر؟ عندما يصطدم بعطالة الواقع. وكيف تتبدى عطالة الواقع؟ عندما لا تنتج متغيراته إلا أشباهها. وبالتالي لا تأتي السياسة إلا انعكاساً لضحالة الفكر من ناحية، ولعطالة الواقع من ناحية أخرى. يبدو المجتمع وقد أضحى مستنقعاً لكل أشيائه الميتة، أو المتكررة العقيمة.
ورغم ضجيج الشوارع فإن الصمت أو الخرس هو سيد المواقف جميعها. فقد تتحرك ألسنة الناس. لكنها لا تلوك إلا الألفاظ عينها، ولا تنبئ إلا عن دلالاتها المعروفة المستهلكة. وتخيم آلية الحركات والإشارات عينها على علاقات الناس فيما بينهم. يشعر الناس أنهم متمترسون في الأمكنة التي كانوا فيها دائماً. لا يبرحون مساحاتهم الضيقة إلا لماماً. عيونهم لا تخترق الجدران الصماء من حولهم. وجوههم صور معلقة فوق رؤوسهم. أيديهم لا تكاد تلمس شيئاً في جيوبهم الفارغة. عندما يتلاقى الناس كأنهم لا يتلاقون أبداً. وعندما يفترقون فهم كانوا مفترقين دائماً.
'الناس في بلادي' كأنهم لم يعودوا ناساً، ولا يسكنون بلاداً. أزورهم لماماً، كلما عدت إليهم من منفاي، فأرى أنهم منفيون في بيوتهم وشوارعهم ومكاتبهم. تمر الأحداث على بلادي، لا تكاد تلامس أسطح منازلهم. سواء عرفوا بها أو لم يعرفوا. لا علاقة لهم بما يفعله الآخرون. هنالك الآخرون إياهم من دون أسماء ولا عناوين. يولد الطفل في بلادي أباً وجداً وسلالة لا تنتهي إلى ما قبل آدم. الجنازات تقطع المسافات إياها ما بين الحارات والمقابر. يذهب الحي القديم إلى المقبرة ليلاقي موته الملازم له من رحم أمه حتى رحم قبره. فالفروق لم تعد كبيرة بين من يعيشون تحت تراب الوطن أو فوقه. فحين يتساوى معظم المواطنين في العوز والحرمان والخرس، يصبح البؤس كذلك بضاعة مستهلكة. فالمشكلة في فقراء بلادنا أنهم كادوا أن ينسوا أحوالهم. فالأغنياء والظالمون أمسوا يعيشون في هوامش الفقراء وليس العكس، هل أصبح المستكبرون هم المنسيين حقاً.
تقول الفلسفة ان الأسوأ من الظلم هو اعتياده لدرجة نسيانه. وعند ذلك لا يتبقى للظلم ما يخشاه. فمن يسمي الظلم باسمه هو ضحيته. لكن الضحية، لشدة بؤسها، تأبى الاعتراف، والنطق باسمها الخاص، كيما لا يسمع الظالم اسمه الخاص. الظلم لا يتمتع وحده بآمريته، فالمظلوم يتمتع بآمرية الانصياع. يقول التاريخ ان الثورات لم يصنعها المضطَّهدون دائماً. فأرباب الاضطهاد كانوا غالباً، هم الأَوْلى بإشعال النيران التي ستأكلهم. ومع ذلك فإن 'خانة' البؤساء ما بعد الثورة ستظل ملأى بأصحابها الجدد، كما كانت قبل الثورة؛ ليس التاريخ هو الموكول إليه وحده بتكرار أحداثه. إنه لا يعيد نفسه. كل ما هنالك أن التاريخ يمر عابراً بأقوامه فهم الثابتون في أمكنتهم، وهو الذي يتغير، كمياً فحسب، بأعداد العصور والأجيال التي يجول بينها.
مع ذلك فالأرض تدور. والناس الملتصقون بأتربتها وكُرَتها، لا يتساقطون في الفضاءات اللامتناهية حولها. قانون الجاذبية يشد أجساد الكائنات والطبيعة إلى جسم الكرة الأرضية، الثابت على دورانه حول ذاته إلى ما لا نهاية. هذا يعني بكل بساطة أن التاريخ، الذي يخص الإنسان وحده، لا يمكنه أن يتدخل في قوانين كوكب الأرض الكونية، التي تمشي فوق أديمها قوافْلُ البشرية عبر مسافة زمنية معينة من لا زمنية العالم، لا تعلم شيئاً عن بدايتها ولا نهايتها.
هكذا يظل التاريخ خارجاً عن الناموس الكوني، لأنه وحده هو وطن التغير، هذا الخروج ليس بمعنى التضاد والصراع، بل من حيث اختلافه عن قوانين المادة الجامدة المؤسسة لطبيعة العالم. فالتاريخ هو اختصاص البشرية وحدها. وقد تلقي عليه، شاء أم أبى، أعباء الصالح والطالح من إنجازاتها. فلا بد من المرجعية لكل حدث، أو إنجازه ذلك الجزئيّ الذي يفسره الكليّ. نقول هذا لأن لغة المرجعيات أو الكليات، متسلطة على ألسنة الناس في بلادنا؛ فقد اعتاد هؤلاء أن يتنصلوا من فردياتهم. كأنهم يدركون لا شعورياً، أنهم لا يمتلكون ذواتهم، كما لو أنهم مصنوعون من قبل غيرهم. أو أنهم باتوا محسوبين على سواهم من البشر أو القوى الكبرى والمجهولة، والتي لا حاجة لأحد أن يعرفها بغير أسمائها الحسنى والشائعة.
لم تعد تصنيفات الفقر والمرض والجهل قادرة على تحديد موضوعاتها، لا تمتلك أثراً من قوة الإقناع والتحريض سلباً أو إيجاباً. فهي كليشهات (تنموية) مستوردة، تنضاف إلى ركام مرجعيات متوارثة محلياً. فاللغة الإصلاحية لا تُصلح شيئاً، سوى أنها تستمد رنينها من مرجعيات الألفاظ الكبيرة. ههنا، الكليات عينها هي الحاكمة الفاصلة، لكنها في حقيقة الأمور، ليس لها دخل في أي شأن من حياة الناس في بلادنا. ليست هي بطالة اللغة، في التعبير والتأثير، ولا عطالة الواقع بصفة عامة. فقد استهلكت الدلالة عينها كل وظائفها في التأشير والتأويل والتسويغ. صار سوء الفهم هو سيد الفهم الأصلي. لا ضرورة للنقاش أو الحوار، ولا حتى السجال. فالمفعول به، في 'الجملة المفيدة' العربية، وحدهَ هو القائم، بدون الفعل والفاعل معاً. ما الحاجة بَعْدُ إلى الكلام، إلى أفعاله، ما دام المطلوبُ صنعُه أو تفهيمُه، كان مصنوعاً ومفهوماً من قبل أي كلام أو فعل.
يبطل السؤال تدريجياً، ومن مرحلة نهضوية فاشلة إلى أخرى، عن أصول العلل المستديمة، قبل التطلع إلى شائعات 'التنمية البشرية المستدامة'. فالصياغة المختلفة في صفتيْ الديمومة هذه، نحوياً، قد توحي بالفارق الواقعي بينهما. كأنما العلل الأولى المستديمة، أمست مستمرة بفعل قواها السلبية في ذاتها، من دون تدخلات إرادوية تنصبُّ عليها من خارجها. وكأنما 'التنمية البشرية المستدامة' إنما يأتيها فعلُها، أو تحقّقُها من 'برانيّتها'؛ فكيف يمكن لنبات أن ينمو من غير ضلعه وتربته. ذلك المفهوم المختلف لماهية النهضة هو المحجوب دائماً عن لغة التنمويين وأتباعهم. حتى كادت (التنمية) تصبح مرادفة لِلْهُجْنة أو البديل اللفظوي والفعلي عن النهضة.
كانت 'التنمية' تفترض ردَّ المتخلفين إلى حال السديم السابق على تكوينهم، ليصار فيما بعد، إلى إعادة صبّهم، كمواد أولية، في قوالب التقدم المستعار، الجاهزة. غير أن استحالة هذه العملية منطقياً وتجريبياً، حوَّلها منذ بدايتها، من مشروع قولبة البشر إلى قولبة الحجر. فتمّ نقْلُ الفعل الإرادوي الرأسي من مركزية النهوض بالإنسان أولاً، إلى اصطناع مدن الأشباح. فإذا بغالبيات الناس في بلادنا يعيشون مصطلح التَّرْك بكل ألوانه الحالكة. ليسوا متروكين من قبل حكوماتهم المتعاقبة فقط، بل أمسوا مهجَّرين من ذواتهم، قسراً عنهم أو تهاوناً منهم. فهم مُصدَّرون، بل ملتحقون بنماذج وهوامش كل الحضارات البائدة والسائدة معاً.
فمن كل الأبراج الشاهقة الصاعدة قديماً أو حديثاً، يبقى برج بابل وحده هو رمز المدن العالمثالثية الهجينة، التائهة بين قطبي الأصالة المغدورة والْهُجنة المنتصرة. فلا يكاد المواطن المنفيّ أو المغترب، العائد إلى بلاده موسمياً، من صيف إلى آخر، يتعرف إلى وجوه أحبائه، فينتشل معالم أهله وصحبه، من بين خلائط البشر والحجر، في مدينته أو قريته. هل يتبقّى للمدينة العربية وجه تُعرف به. فالخليج العربي مثلاً، أصبح العربي مفقوداً في شوارعه ومكاتبه.. وحتى في بيوته.
وإذا لم ينطق لسانه بالانكليزية فلن يحاوره أو يحترمه أحد. ليست الهوية الأصلية هي الضائعة هنالك فقط، بل هي المحتقرة كذلك. ومن مدن المغرب حتى عمق المشرق تجتاح قطعان السياح الأجانب المرافق العامة وأذواق الناس. فالوافدون من كل جنس.. كأنهم البدائل عن المواطنين والأهالي. مستقبل الوطن العربي مساحات من المتاحف والأطلال لزوّاره من العالم المتقدم. يبقى التغرّب في العواصم المتفرنجة هو نموذج المواطنة الجديدة للأجيال الصاعدة.
الغالبيات العظمى غائبة في مجاهل عذاباتها المتوارثة، و(الأقليات) المتطورة السابحة والمتحركة على سطوح المستنقعات البشرية الراكدة تحتها، لا تكاد تنجو من أمية القراءة والكتابة، حتى تقع في الأمية الثقافية المضاعفة بالتفرج المسطح والتعالم العامي. مجتمعات تتطور كيفما اتفق. و(طلائع) تسير في كل الاتجاهات المتضاربة. الناس تدبّ وتهبُ هنا وهناك على غير هدى في كل شأن من حياتها الخاصة والعامة. ليس ثمة حكومة عربية مسؤولة عن شعبها. كأنما هناك عداوة مستحكمة بين الحاكم والمحكوم، ليس بينهما إلا علاقة السجّان لسجنائه. وفي أحسن الأحوال قد يمتهن الحاكم مهنة راعي الأغنام.
هنالك إذن قاموس كامل مفتوح لأسماء الأعطال والسوالب والنوائب التي تشكل الإيقاع المستمر لما يُسمى بالحياة اليومية لمجتمعاتنا. كأنما لا بد من تحقيق هذا الشرط الأزلي في كيفية الإبقاء على فاعلية تجهيل المجتمع بذاته، بأحواله. فالممنوع الأكبر هو أن تُولد مؤسسة المعرفة، حتى فيما يُدعى بمؤسسة التعليم. ليس الحاكم وحده صاحب مؤسسة القمع. إنه العضو الأول، والحارس الأكبر في هيئة إدارة التخلف. حتى عندما تجود الصدف الغريبة بمولد حاكم متنور، فإنه سيعاني من مصير البطل التراجيدي اليوناني الذي يُحكم عليه برفع الصخرة من أسفل الجبل إلى القمة لكي تتهاوى من جديد - وهكذا إلى ما لا نهاية.
ليس الكلام عن عجز ثقافة الإصلاح، حتى ولو توفرت إرادته أحياناً نادرة، سوى إعادة إنتاج تعابيره البائسة. هل نقول إذن ان مصير العربيّ سائر به نحو النموذج الأوضح والدائم لمصطلح الإنسان المستباح، على أن الاستباحة هنا ليست مرضاً عارضاً قابلاً للشفاء. لكنه هو الحالة المعبرة عن نوع من الإنسانية الفاقدة للشعور بحريتها، حتى كادت تنسى هذا الفقدان.
التعليقات