حمزة السالم

من الأمور التي بحثتها في شبابي هي مسألة التأمين، وهي من الأمور المستحدثة فدليلها من أصول التشريع يندرج تحت البراءة الأصلية والتي تنص على المنع في العبادات والحل في المعاملات. وعلى الرغم من أنني لم أجد دليلا شرعيا ولا عقليا على تحريم التأمين ولا حتى من باب المصلحة، إلا أن مخالفة الفتوى المشهورة بتحريم التأمين مسألة شاقة عسيرة على النفس تحتاج إلى صدمة عقلية فكرية حسية تحرر فكر الإنسان من التبعية لغيره وتمنحه الاستقلالية بالتفكير، بشرط توفر الأدوات العلمية والمنهج الفكري الذي لا يحيد أبدا عن الاتباع الصريح للدليل الشرعي.

مرت أعوام وأنا في أمريكا وأنا أحيل من يسألني من الناس عن التأمين إلى سؤال غيري، ولكني لا أسمح لنفسي بالتأمين إلا في حدود القانون الإلزامي والذي يجبر الساكن والسائق على ضمان حقوق الآخرين. وقد فقدت سيارة مرتفعة السعر بتزحلقي في الجليد، ورفضت ملكية منزل لأمور تتعلق بالتأمين عليه، ولكن لم يُحدث ذلك أي تغيير في موقفي الرافض للتأمين رغم أنني لم أجد دليلا على حرمته، ولكنه رق استسلام العقل والفكر.

وأقمنا -نحن المسلمين في تلك المنطقة- مخيما في زمن الأعياد نتسلى به ونساؤنا وذرياتنا عن ملاهي الأمريكان. وخرج الرجال بالأطفال في نزهة على قوارب تبحر بالبدالة، كل أربعة في قارب. وحان القضاء وحق القدر فانقلب قارب كان يقوده مهندس مسلم لم يربط سترة نجاته فانفسخت منه بعد أن ضرب القارب رأسه فأغمي عليه ليستقر في قاع البحيرة الضحلة، والمليئة بالأعشاب البحرية فلم يستطع أحد إخراجه رغم أننا كنا حوله، حتى مات رحمه الله واستخرجه الغواصون.

اختلفت هموم المجموعة عندها وخواطرهم. فكانت خواطري تسترجع حال الأرامل عندنا - غالبا - وطردهن عند الأبواب، وتسلط الأخ والعم والخال وأم الزوج والأخت على الأرملة وأطفالها الذين فقدوا عائلهم وأصبحوا في حاجة إلى معوناتهم المالية، هذا والوضع أسوأ في بلاد المسلمين فقد يلحق بذلك فساد وأذى في الدين والدنيا. لذا فقد كان همي هو عائلة المتوفي، فقد ترك بنتين وصبياً مع أمهم وقد كان رقيق الحال غريبا. فأخذت في تجهيز مسودات الخطط والخطب للتوسل بها إلى مروءات الناس في المنطقة وخارجها ومن السعودية من أجل تأمين مبلغ مالي يحفظ به ماء وجه الأم وكرامة البنات ومروءة الصبي من ذل الفقر بعد الكفاف وما يتبع ذلك من أمور.

وهنا جاءت الصدمة العقلية الفكرية الحسية بالزخم والقوة الكافية التي جعلتني أقف وقفة صدق منطقية حررت الفكر من التسليم والتبعية وكشفت غطاء التقليد فاستطعت رؤية حكم جواز التأمين الذي كان مغطى بغطاء هيبة مخالفة المشهور، فقد كان المهندس المسلم مؤمًناً على حياته من جهة عمله باقتطاع مبلغ زهيد شهريا من مرتبه مقابل مليون دولار تقريبا حصلت عليها زوجته، فجبرت كسرها وأبناءها في مصيبة وعائلهم وسترت عوزها من استغلال الشحيح وكفت حاجتها عن خسة اللئيم.

إن مما سكت عنه أن الخوف والريبة من كل ما أتى من جديد الغرب هو أصل في تحريم كثير من المعاملات التي لم تحرمها الشريعة، وبلوى التقليد هي التي مكنت هذا الفكر من الاستمرار. رغم أنه عند التأمل الصادق نجد أن كثيراً من تشريعات الغرب في المعاملات قائمة على العقل الصحيح والمنطق الصريح. والمنطق هو ميزان العقل والعقل هو الذي يدل على الفطرة والفطرة هي دين الله قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }الروم30.