غسان الإمام


لأول مرة في تاريخه وعمره الذي يقترب من ثلاثين سنة، يواجه حزب الله مأزقا حادا. الحزب اليوم مهدد بمصداقيته، كحزب سياسي، عليه التصرف بحكم الضوابط السلمية التي تفرضها الديمقراطية اللبنانية. الأهم سقوط مشروعية حمله السلاح، كحزب مقاومة، مفروض فيه أن يستخدم سلاحه، فقط، في ردع عدو مجاور متربص بلبنان.

ما أشبه حزب الله بسمكة ضخمة علقت في شباك العدالة الدولية. الحزب / السمكة laquo;يُبلعطraquo;. يحاول تمزيق الحبال. يحاول قلب المركب اللبناني المهزوز أصلا، وسط ذهول ودهشة مئات ملايين اللبنانيين والعرب. فقد اكتشفوا أن الحزب يواجه احتمالا قويا، باتهام العدالة الدولية له باغتيال الزعيم السني ورئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري (2005).

للتخلص من طُعم العدالة الدولية الذي علق في حلقه، لم يحسن الحزب ومرشده اختيار أسلوب الدفاع المشروع عن النفس. التخبط الواضح داخل الشبكة يوحي لملايين المشاهدين بأن المتهم في وضع laquo;المريب الذي يكاد يقول خذونيraquo;.

لجأ حسن حزب الله، سلفا، إلى فصل قضية اغتيال الحريري عن مجراها القضائي المستقل والحيادي، بتسييسها، في الوقت الذي يغالط باتهام الآخرين بالتسييس! تشكيكه في عدالة المحكمة يرمي إلى إسقاط قرارها الظني (الاتهامي) قبل صدوره، رافضا أية ذرائع. أدلة. شواهد، قد يقدمها المدعي العام إلى المحكمة.

التسييس الرافض للاتهام يترافق بالتمييع. حسن حزب الله يخلط القضية بظروف وقضايا أخرى. كالادعاء بأن اختراق إسرائيل للاتصالات اللبنانية، زوّد المحكمة بشهادات هاتفية مزورة لإدانة الحزب. وكأن المحكمة ولد غِرِّير، غير قادر على التمييز بين الصحيح والزائف.

الخلط يصل إلى ربط الاتهام القضائي للحزب بتحركات القوات الدولية المرابطة في جنوب لبنان. حسن حزب الله يوحي بأن هذه التحركات متناغمة مع المحكمة، لضبط وردع أنصاره هناك، في حالة اتهامه بالاغتيال. الواقع أن القوات اللبنانية تريد حماية عشرات ألوف السكان من الهجمات الجوية الإسرائيلية، في حالة تجدد الاشتباك مع الحزب. التحرك الدولي جاء بعد قيام الحزب بحشد وتخزين أطنان من العتاد والصواريخ في القرى الشيعية في المنطقة الدولية.

عندما كان الاتهام معلقا كالسيف فوق رأس النظام السوري، رضي الحزب بتقديم نحو عشرين عضوا قياديا وقاعديا استدعاهم المحقق الدولي كشهود. عندما راحت الأدلة تتحول بالاتهام من سورية إلى الحزب، يعلن حسن حزب الله رفضه سلفا لتسليم أي عنصر حزبي للعدالة! بل رفض القبول بـlaquo;تخفيفraquo; الاتهام، باكتفاء المحكمة بمجرد تناول laquo;عناصر غير منضبطةraquo; فيه بارتكاب الجريمة.

الواقع أن الحزب كان في غاية الانشراح والارتياح لبقاء دمشق في قفص الاتهام. كان الحزب مستمتعا بسوء التفاهم بين النظام السوري والسُنّة اللبنانية. للتمويه، ظل الحريري laquo;شهيداraquo; في الخطاب الإعلامي والسياسي للحزب، لإرضاء وتغذية الحملة الشعواء التي شنها تكتل 14 آذار (تحالف سني. درزي. مسيحي) على النظام السوري.

لا أحد يشك في مهارة وحرفة هذا السيِّد الديني المسيَّس من عمامته إلى أخمص قدميه. ها هو يحاول الإيقاع بالعلاقة المتجددة بين سورية والسنة اللبنانية. هَالَهُ اعتراف الحريري الابن laquo;بالأخطاء التي ارتكبتraquo; في الاستعجال باتهام سورية. بل ها هو يحاول إحراجه كرئيس حكومة أمام طائفته، بإظهاره وكأنه laquo;الواشيraquo; بأسرار المحكمة. الحريري تصرف، بذكاء رئيس الحكومة التقليدي، عندما كذَّبه، بتهذيب شديد، سماحة laquo;السيدraquo;. قال الحريري إنه لا يعرف أصلا مضمون قرار اتهامي لم يصدر بعد. وبالتالي، فما دار بينه وبين حسن حزب الله لا يعدو laquo;انطباعات عامةraquo; عن احتمالات الاتهام.

لتغطية اتهامه بالاغتيال، ولفشله في إقناع اللبنانيين ببراءته، فمن الواضح أن الحزب يتجه إلى تفجير الوضع في لبنان. هناك أولا محاولة عرقلة سير العدالة، برفضه المسبق تسليم أي حزبي متهم، حتى ولو كان عنصرا laquo;غير منضبطraquo;. منع القوى الأمنية اللبنانية من ملاحقتهم واعتقالهم، سوف يفجر غضبا طائفيا وشعبيا. وهو قد يلجأ إلى إخفائهم، أو إبعادهم إلى مكان آمن. إيران مثلا.

الاحتمال الأبعد هو قيام الحزب بانقلاب سياسي، بإسقاط حكومة الوفاق الوطني، وفرض حكومة مدعومة بقوة الحزب وميليشياه وسلاحه، وصولا إلى تغيير في قمة الرئاسة. يبقى العماد ميشال عون المرشح الجاهز، إذا لم يكن بالإمكان laquo;تطويعraquo; الرئيس الحالي ميشال سليمان الذي يؤثر حكمة الحياد والدعوة إلى الحوار.

الاحتمال الآخر الذي لا يقل خطرا، هو التورط في اشتباك مع إسرائيل، لاستعادة صورة الحزب، كحزب laquo;مقاومة شيعية جهاديةraquo;. هذا الاحتمال يتعزز لجوء الحزب إليه، كرد إيراني على هجوم إسرائيلي، أو أميركي، على إيران.

من حسن حظ لبنان، أن القمة العربية laquo;العاجزةraquo; لن تكون هي الجاهزة لإخراجه من هذه الاحتمالات الخطرة. يبدو أن الوفاق السعودي / السوري الذي ضمن حالة من الاستقرار الحكومي في هذا العام، هو المرشح لإطفاء الحريق الناشب في رؤوس وعقول زعماء الطوائف.

أكتب هذا الكلام، قبل أي إعلان رسمي عن احتمال زيارة العاهل السعودي والرئيس السوري للبنان. على أية حال، فمهمة تبديد الزعيمين العربيين للاحتقان، ولمنع حزب الله من الانتحار، تأخذ طابع الاستعجال، لا سيما إذا امتد الاتهام القضائي إلى تجريم الحزب بالاغتيالات المروِّعة التي شهدتها الساحة اللبنانية، بعد الحريري.

ولعل العامل المساعد لدور التهدئة السعودي في لبنان، هو اتجاه سورية بشار المتزايد، نحو ممارسة دور أكثر توازنا، وأقل انحيازا في لبنان: علاقة رسمية مع السلطة (تبادل السفراء). تفعيل العلاقات والاتفاقات الاقتصادية والمصلحية المشتركة. إبقاء حزب الله كميليشيا مقاومة يترافق بانسحاب سوري ملحوظ من التدخل اليومي في الشأن السياسي اللبناني.

المصالحة السورية مع السنة اللبنانية التي تمت خلال الزيارات المتلاحقة للحريري لدمشق، تمنح الأسد الابن الفرصة للجم وردع حزب الله. الدلائل متعددة! الصحافة السورية لا تبدو متحمسة لتهديدات حزب الله لخصومه. صورة الأسد مع الإيراني نجاد وحسن حزب الله، تبعتها صورة للأسد مع الحريري والتركي السني داود أوغلو. تبرئة المحكمة الدولية لسورية من دم الحريري الأب، تؤكد قدرة نظام دمشق على مواكبة الجهد الذي تبذله السعودية، في تحقيق هدفها القومي: استقرار لبنان. المحافظة على استقلاله وسيادته، في إطار عروبته.

كما قال الحريري الابن، فلعل من حقي المتواضع أن أذكِّر بأن التسرع اللبناني في اتهام سورية laquo;كان خطأraquo;. بشار قال إن الاغتيال laquo;ليس من أخلاقيraquo;. وزيره وليد المعلم يهدد أي سوري قد يكون متورطا في قضية الحريري، بمحاكمته بتهمة الخيانة العظمى. لم أكن مخطئا عندما قلت إن لبنان لا يمكن أن يحكم بحكومة تناصب سورية العداء. ولن أكون مخطئا عندما أقول اليوم إن لبنان لا يمكن أن يحكم بحكومة انقلابية توجهها طهران، وتناصب السعودية وسورية والعرب العداء.