سليمان الهتلان
بما أن التحضيرات للقمة الثقافية العربية، المزمع عقدها العام القادم، قد بدأت، هل لي أن أسأل: ما الذي يمكن لقمة عربية ثقافية أن تحققه للمشهد الثقافي العربي وللمثقف العربي؟ وما ذا حققت laquo;القممraquo; العربية السياسية السابقة للعرب حتى ننتظر إنجازات للقمة الثقافية المقبلة؟ مثل هذه الأسئلة ربما قوبلت بسؤال آخر: لماذا يصر بعض المثقفين العرب على اتخاذ المواقف السلبية وعلى التشكيك في النوايا وتثبيط الهمم مع كل مبادرة يطلقها laquo;السياسيraquo; في العالم العربي؟
حسناً، لنخرج من دائرة الاتهامات قليلاً ونذَّكر بأن كاتب هذه السطور ينادي دائماً بإيجاد منابر جادة تجمع بين المثقف العربي وصانع القرار في منطقته. بل إن من مصلحة التنمية في العالم العربي، عموماً، ألا تنشأ قطيعة بين صانع القرار والمثقف، ونعني هنا المثقف المخلص والجاد والمؤهل.
ليس جديداً القول إن من المصلحة الوطنية أن يسعى صانعو القرار، من رأس الهرم إلى أدناه، إلى تأسيس علاقة أساسها الاحترام مع المثقفين، بشتى تياراتهم، علاقات تحافظ على القدر الأكبر من استقلالية المثقف وصدقيته وحقه في النقد وفي الاختلاف حتى مع السلطة. أما أن يسعى السياسي إلى توظيف المثقف ضمن أدواته السياسية فيصبح المثقف ndash; مع الوقت ndash; رقماً آخراً في laquo;حاشيةraquo; السياسي مثله مثل بقية من في laquo;معيتهraquo; من مستشارين وخبراء وطباخين وصناع نكتة ومن في شاكلتهم من laquo;الأخوياءraquo; وraquo;المطارزيةraquo; فتلك نهاية laquo;المثقفraquo; حتى وان ابتكر أعظم النظريات وألف أشهر الروايات وحاضر في أعرق الجامعات. إن من مصلحة النظام السياسي في أي بلد وجود قطاع كبير من laquo;المثقف المحترمraquo; حتى وإن تعارضت آراؤهم وأفكارهم مع النظام نفسه. وهذا النوع من laquo;المثقفraquo;، ذو الصدقية والمواقف النقدية، يعد أيضاً صمام أمان للمجتمع وقيادته خاصة في وقت الأزمات. إن التنوع والاختلاف هما من شروط المشهد الثقافي الحي والمؤثر، والقدرة على التعبير المباشر عن هذا التباين والتنوع في الأفكار والرؤى هي في الواقع إثراء وغنى للحراك الثقافي في أي مجتمع.
لكننا هنا أمام سؤال آخر: هل يحتاج المثقف العربي اليوم إلى قمة عربية ثقافية ترسم للثقافة العربية طريقها وتحدد لها شكلها ولونها؟ جوابي بالتأكيد: لا! فالحراك الثقافي الحقيقي والحي لا يأتي بقرار سياسي ولا يتحقق بقمة سياسية. إن الثقافة العربية، لكي تحقق وجودا وحيوية، خاصة في عصر العولمة وتحدياتها، تشترط ما لا يبدو أن laquo;القمة العربيةraquo;، مهما صلحت نوايا أهلها، قادرة على تحقيقه: الحرية!
إن حرية التعبير وحرية التفكير وحرية الاختلاف هي laquo;الشرطraquo; الأساس لأي حراك ثقافي جاد ومؤثر. الحقيقة المؤسفة أن بيننا، في العالم العربي، وبين تحقق هذا laquo;الشرطraquo; مسافة طويلة ومليئة بكل أشكال الألغام والعوائق والسدود والمواد القابلة للانفجار! وهكذا سنبقى ندور في حلقات مفرغة من أي معنى وهدف طالما ظلت العملية السياسية في عالمنا العربي لا تحتكم في أدائها إلى laquo;مؤسساتraquo; حقيقية وإنما إلى قرارات ومواقف يرتجلها الفرد في لحظات غضب أو لحظات فرح. وتلك هي laquo;الحالةraquo; حينما تغيب مؤسسات الرقابة، من قضاء مستقل وبرلمان فاعل وصحافة ناقدة، وفي غياب مظلة قوية تؤمن بتلك الحريات كمكتسب وطني laquo;مقدسraquo; لا تمسه laquo;مزاجيةraquo; السياسي من قريب أو بعيد. لكن laquo;الفرجraquo; ربما جاء مع تقنيات الاتصال الحديثة والمبهرة. فمن يستطيع اليوم منع شباب المنطقة من التواصل مع مؤسسات المجتمع المدني في الشرق وفي الغرب ومع نظرائهم في العالم كله من شباب يتطلع للتغيير والابتكار والإبداع ؟
أدوات التواصل هذه، بعيوبها ومشكلاتها، ستسهم في تحرير الإنسان العربي من وسائل الرقابة المحلية التي هيمنت طويلاً. غير أنها، بالتأكيد، ليست كافية لترسيخ حراك ثقافي محلي ينبع من إنسان المكان نفسه ويتفاعل فيه المثقف العربي مع أهل بيئته أولاً ثم يتواصل بعد ذلك مع العالم كله.
كل ما سبق لا يلغي أهمية مبادرات عربية جيدة مثل اللقاء التحضيري الأول للقمة الثقافية العربية الذي عقد قبل أسبوعين في بيروت. كان هذا اللقاء ثمرة جهد مشترك بين مؤسسة الفكر العربي والمنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة تحت مظلة جامعة الدول العربية. وللأمانة، يستحق المنظمون تقديراً خاصاً على جهودهم في استضافة 120 مثقفاً عربياً من أجل إعداد laquo;أجنداتraquo; القمة الثقافية العربية القادمة. ومع أنني على يقين أن laquo;قمةraquo; ثقافية عربية لن تصلح حال الثقافة في العالم العربي ما دام أبرز شروط laquo;النهضةraquo; ndash; أعني الحرية ndash; غائباً إلا أنني أتفاءل بأن هذه القمة ربما تسهم في تذكير laquo;الأمةraquo; بمخاطر وتحديات ثقافية كبرى يواجهها العالم العربي اليوم. فعلى سبيل المثال، وبعد مداولات طويلة ndash; وصاخبة أحياناً ndash; أصر فريق العمل، الذي بحث في موضوع ضعف المحتوى العربي الرقمي على شبكة الإنترنت،على تنبيه القادة العرب بخطورة فرض رقابة على الانترنت لأنها laquo;فاشلة سلفاًraquo;! بمعنى آخر، بدلاً من البحث في آليات جديدة لفرض رقابة على الإنترنت، تقنية اليوم كفيلة بإفشالها، سيكون أجدى أن تُدعم مبادرات جادة تهدف لزيادة المحتوى العربي laquo;النوعيraquo; على الإنترنت. ما الذي يمنع، مثلاً، من تأسيس صناديق laquo;دعم ماليraquo; تشجع الشباب العربي على الاستثمار فيما من شأنه أن يرفع من مستوى المحتوى العربي على شبكة الإنترنت؟ ولماذا لا تتعلم مؤسسات عربية كثيرة، حكومية ومدنية، من تجارب مهمة في فرنسا وإيطاليا وألمانيا نجحت إلى حد بعيد في حماية لغاتها المحلية من هيمنة laquo;الإنجليزيةraquo; وسطوتها؟ لم لا نستفيد من تلك التجارب في محاولاتنا الوليدة لإنقاذ اللغة العربية؟ وثمة العشرات من الأفكار العملية التي يمكن أن تبني جسوراً من التلاقي الإيجابي بين المثقف وصانع القرار في العالم العربي. لكن يبقى التحدي الأكبر أن يقتنع laquo;السياسيraquo; العربي بأن حريات التفكير والتعبير والنقد والاختلاف، تأتي على رأس قائمة شروط النهضة الثقافية المنتظرة في العالم العربي! فهل سيقبل laquo;السياسيraquo; بالثمن الذي سيدفعه في حين تحقق هذا الشرط؟ وما الذي يجبره على قبول هذا الثمن؟
وهنا تكمن المشكلة!














التعليقات