برهوم جرايسي


الجهاز الأمني الإسرائيلي يعطي أولوية قصوى للتعاون العسكري مع تركيا ويتخوف كثيراً من انهياره إذا استمرت الأزمة السياسية بين الجانبين
أفرزت قضية مقتل ستة ضباط من سلاح الجو في جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال تدريبات يجريها جيشهم في رومانيا قبل أيام، سلسلة من التساؤلات حول طبيعة هذه التدريبات واختيار مكانها، لتقود إلى تساؤلات أخرى حول مستقبل العلاقات العسكرية الإسرائيلية- التركية، بعدما قالت مصادر إسرائيلية إن التدريبات انتقلت إلى رومانيا على ضوء تدهور العلاقات مع تركيا.
الأمر الأبرز هنا هو أن هذه التدريبات العسكرية لجيش الاحتلال لم يعلن عنها مسبقاً في إسرائيل إطلاقاً، وقد أحدث سقوط المروحية الإسرائيلية العسكرية في رومانيا نوعاً من المفاجأة بسبب مكان الحادث إلا أن وسائل الإعلام الإسرائيلية كشفت جزءاً من حقيقة هذه التدريبات، لنعلم أن إسرائيل وقعت مع رومانيا في عام 2003 على اتفاق عسكري تضمن إجراء تدريبات عسكرية إسرائيلية على الأراضي الرومانية. وقد بدأت هذه التدريبات في عام 2004 إلا أن جيش الاحتلال لم يكن يستغل هذا الاتفاق بوتائر متقاربة، مفضلاً إبقاء التدريبات في تركيا، وهي قائمة منذ عشرات السنين -حسب ما تقوله المصادر الإسرائيلية- ويقول مسؤول عسكري لم يُكشف عن هويته إن الأهم من ناحية إسرائيل laquo;كان الحفاظ على العلاقات التركيةraquo; ولهذا فإن معظم التدريبات جرت على الأراضي التركية.
إلا أنه بعد تنامي الأزمة السياسية بين إسرائيل وتركيا استوعب جيش الاحتلال صعوبة مواصلة التدريبات في تركيا، ولهذا فقد جرت التدريبات الأخيرة في رومانيا، وقد رأى جيش الاحتلال أن التضاريس الجغرافية الخاصة في رومانيا مناسبة له، وقال أحد ضباط سلاح الجو في الجيش لموقع laquo;واينتraquo; على الإنترنت laquo;إن ارتفاع الجبال في رومانيا يتراوح ما بين 5 آلاف و9 آلاف قدم، وهي تضاريس ليست موجودة في إسرائيلraquo;. وأضاف الضابط ذاته أن laquo;التدريب في رومانيا سمح لنا بالطيران بشكل وفي ظروف لا يمكن أن نجدها في البلاد، في وسط رومانيا توجد جبال عالية جدا وحولها سهل مفتوح، وهذا المشهد وفر للقوات الإسرائيلية محيطا مميزا لتدريب لا يمكن إجراؤه في إسرائيلraquo;.
والسؤال الذي يطرح نفسه أمام هذه التصريحات: لماذا يبحث جيش الاحتلال عن جبال شاهقة يصل ارتفاعها إلى أكثر من 9 آلاف قدم (حوالي 3 آلاف متر) فالشرق الأوسط خالٍ تقريبا من جبال كهذه.
ولكن التلميح الأكبر قرأناه في مقال أسرة التحرير لصحيفة laquo;هآرتسraquo; -التي تعتبر صحيفة النخبة في إسرائيل- laquo;لا يمكن للتدريبات العسكرية أن تبقى في غرف الإرشاد، ولا يمكن حصرها في الحدود الضيقة لإسرائيل، التي نصفها صحراء، وجبالها منخفضة وطياروها يعرفون جيدا تضاريسها، إن تدريبات فعلية في دول مثل تركيا ورومانيا، تؤكد كفاءة الطيارين القتاليين للعمل في أوضاع طوارئ وفي مناطق جديدة ومتطلباتها عاليةraquo;.
والرسالة واضحة، وهي أن تدريبات كهذه مخصصة laquo;لأماكن بعيدةraquo; وفي laquo;ظروف صعبةraquo; ونضيف لهذا laquo;تضاريس الجبال الشاهقةraquo; ولهذا فإن التلميح هو لإيران وهذه رسالة موجهة بالأساس إلى الشارع الإسرائيلي الداخلي، كي يدرك أن جيشه لا يهدد فقط وإنما يتدرب أيضا.
وما يمكن فهمه أيضا من هذه المعلومات هو أن إسرائيل لا تعلن عادة عن كل تدريباتها المشتركة أو الخاصة التي تجريها في الخارج، وكما يبدو فإن الأمر لا يقتصر على تركيا ورومانيا، بل دول أوروبية أخرى- حسب تلميحات ظهرت في الأيام الأخيرة في الصحافة الإسرائيلية. ومن جهة أخرى، فإنه على مستوى العلاقات مع تركيا، فإن الرسالة مزدوجة وهي أيضا تثير تساؤلات حول مستقبل هذه العلاقات، فمن جهة تقول المصادر العسكرية الإسرائيلية إن التدريبات انتقلت إلى رومانيا بعد أن استوعب قادة جيش الاحتلال استحالة إجراء تدريبات في تركيا على ضوء تردي العلاقات السياسية بين الجانبين.
ولكن من جهة أخرى، فقد تكاثرت في الأيام الأخيرة الأنباء التي تقود إلى الاتجاه الآخر على مستوى العلاقات مع تركيا، فقد وصل إلى إسرائيل في الأسبوعين الأخيرين وفد عسكري تركي لإتمام عملية تسليم الجيش التركي أربع طائرات من دون طيار، وهي ما تبقى من صفقة أشمل تم توقيعها في السابق، وتزامن هذا مع إعلان وسائل إعلام إسرائيلية أن ممثلي الصناعات الحربية الإسرائيلية عادوا إلى تركيا، بعد أن استدعتهم حكومتهم في ظل الأزمة التي أعقبت مجزرة أسطول الحرية، ويضاف إلى هذا إعلان إسرائيل تسليمها الطائرات الأربع من دون طيار، وإعادة سفن أسطول الحرية بعد أن احتجزها الجيش الإسرائيلي حوالي شهرين.
لا يمكن الاستنتاج منذ الآن بأن الأزمة التركية- الإسرائيلية في طريقها للانتهاء، فهناك شروط تركية أخرى لم تنفذها إسرائيل، مثل القبول بلجنة التحقيق الدولية في مجزرة الحرية، والاعتراف بالمسؤولية عن المجزرة ودفع التعويضات للمتضررين، ورغم ذلك فإننا نشهد حالة من الهدوء واستئناف حذر لبعض جوانب العلاقة مع تركيا، منها مثلا استئناف السياحة الإسرائيلية إلى تركيا، وبشكل خاص إلى جنوب تركيا، بعد أن انقطعت بشكل شبه كلي بعد مجزرة أسطول الحرية.
إن الأسابيع القليلة المقبلة ستكون حاسمة جدا على مستوى العلاقات الإسرائيلية- التركية، التي ستحكمها عدة جوانب، وليس فقط مجريات الصراع الشرق أوسطي، فهناك جانب الاحتضان الأوروبي لتركيا، وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، هذه القضية التي طرحت من جديد على ألسن عدد من ساسة أوروبا البارزين في الأيام الأخيرة.
ولكن على المستوى الإسرائيلي، وما كان بالإمكان فهمه من بين سطور ما نُـشر في الأيام الأخيرة، هو أن الجهاز الأمني الإسرائيلي يعطي أولوية قصوى لمسألة التعاون العسكري مع تركيا، وتتخوف الأجهزة الإسرائيلية كثيرا من انهيار كلي لهذا التعاون في حال استمرت الأزمة السياسية بين الجانبين.