جابر حبيب جابر
لا أريد أن أكون شديد التشاؤم، لكن هناك كثيرا من الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن انتخابات مارس (آذار) 2010 قد تكون الانتخابات الأخيرة في عراق ما بعد صدام، أو ربما تكون آخر انتخابات بقدر من الديمقراطية يتجاوز المعايير الشرق أوسطية. يوما بعد يوم يغدو العراق أكثر شرق أوسطية، وربما نقول إنه يعود إلى إقليمه وإلى قواعد الإقليم. والصراع الجاري حاليا بين النخب السياسية حول السلطة ينطوي على قناعة لدى تلك النخب بأنها الفرصة الأخيرة المتاحة لكي تفرض إحدى هذه النخب هيمنتها في العراق وتقولب النظام السياسي الجديد وهوية البلد وفق مراميها.
إن السبب الرئيسي الذي بفضله جرت العمليات الانتخابية في العراق بقدر معقول من الشفافية منذ عام 2005 هو الوجود الأميركي. فلأن الأميركيين كانوا هم السلطة الأقوى على الأرض، فإن اللاعبين المحليين كان عليهم أن يقبلوا باللعبة الوحيدة التي يقرها الأميركيون لخلق حكومة عراقية، وتلك اللعبة كانت الانتخابات. لو لم يكن هذا الوجود الأميركي الضاغط قائما لكان هؤلاء اللاعبون مارسوا اللعبة بطرقهم هم، وهي أبعد ما تكون عن فكرة الانتخابات الديمقراطية الحقيقية، ولربما لجأوا إلى المصدر الوحيد للشرعية الذي يعرفه الشرق الأوسط: أي الغلبة بقوة السيف.
الآن، الأميركيون يشدون الرحال ويرسلون ما يكفي من الإشارات عن عدم الرغبة في الانخراط في الوضع العراقي زمنا أطول، وعن اعتراف بأن مشروعهم لدمقرطة المنطقة عبر العراق قد آل إلى الفشل المرير، بل وتبنيهم للخطاب القائل بالاستثناء الشرق أوسطي وهو خطاب يميل له البراغماتيون في الإدارة الجديدة الذين يفضلون أن تلعب أميركا دور القوة العظمى التقليدية التي تتعامل مع وكلاء إقليميين لحفظ مصالحها بدل الانخراط بتغيير البنية الاجتماعية - السياسية.
لذلك فإن اللاعبين المحليين وداعميهم الإقليميين يتصرفون بوحي من غرائزهم نحو ملء الفراغ، وهناك اليوم عدة مشاريع إقليمية تتصارع في العراق وتنخرط بشكل أكثر صراحة من أي وقت مضى في مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة، بل وفي الوساطة بين الأطراف العراقية إلى درجة صار بعض الصغار من السياسيين لا يتردد في الحديث عن أهمية أن يحظى رئيس الوزراء الجديد بالقبول الإقليمي، بل إن بعضهم دعا إلى أن يرسل العراق تطمينات إلى دول الجوار، ولا أدري أي نوع من التطمينات تلك. فهل على العراق مثلا أن يطمئنهم بأنه سيكف عن التدخل في شؤونهم الداخلية وعن دعم أطراف مسلحة داخل إقليمهم وعن قصف قراهم الشمالية، أم بأنه سيكف عن إرسال قواته عبر الحدود لملاحقة المتمردين داخل أراضيهم، أم يطمئنهم بأنه سيكف عن رعاية واستضافة ودعم جماعات تدعم الإرهاب في عاصمته، أم يطمئنهم بأنه سيكف عن مطالبتهم بدفع التعويضات وسيدعم إخراجهم من طائلة الفصل السابع، أم يطمئنهم بأنه سيوقف التحريض الإعلامي ضدهم والدعوة لمحاربة الوجود الأجنبي على أرضهم تحت اسم الاحتلال!
لقد انتصر الإقليم في العراق، وبانتصاره انتصر على أمل الديمقراطية في العراق، فأي من المشاريع الإقليمية الرئيسية وجميعها تبدو أكثر قوة من المشروع الأميركي، يقوم على فكرة جر أكبر قدر من السلطة لصالح الطرف العراقي الحليف وتوظيف هذه السلطة بعد الانسحاب الأميركي لقولبة الدولة العراقية عبر السيطرة على الأجهزة الأمنية والدفاعية بما يخدم بقاء ذلك الطرف في السلطة. نحن اليوم في مرحلة العراق ما بعد الديمقراطي، حيث تفرض قواعد الإقليم نفسها تدريجيا لإنتاج وضع نكون فيه أمام أحد احتمالين؛ الأول هو أن أحد المشاريع الإقليمية سينتصر، وبالتالي سنشهد حكومة عراقية باتجاه معين تفرض إرادتها وتعد المسرح لسيطرة دائمة بعد الرحيل الأميركي، أو أن صفقة إقليمية ستنعقد تتوزع بموجبها السلطة وبقدر متوازن بين اللاعبين المحليين وشركائهم الإقليميين وبشكل يسمح بإنتاج نظام سياسي شبيه بذلك الذي في لبنان: انتخابات تعيد إنتاج نفس التوازنات، وبلاد يتوزع فيها النفوذ بين قوى الأمر الواقع وهي تمارس دكتاتوريتها المحلية باسم تمثيل الهويات.
في الثمانينات راجت فكرة أن الدولة في العراق وفي عموم الشرق الأوسط هي دولة تستمد سلطتها وقوتها من خارج المجتمع. في حالة العراق كانت الدولة الملكية تستمد سلطتها من الوجود البريطاني، وفي العصر الجمهوري - البعثي من عوائد النفط، وفي عراق ما بعد صدام من الوجود الأميركي، وفي عراق ما بعد انتخابات مارس، نشهد ظهور دولة تستمد سلطتها من إرادة الإقليم.
نعم، على العراق أن يطمئن الإقليم بأنه تدريجيا يعود إلى محيطه الشرق أوسطي، ويلعب قواعد لعبته، منزها من رزايا الديمقراطية والتعددية والانتخابات.
التعليقات