الطيب بوعزة


تكاثرت منذ حوالي ثلاثة عقود الأبحاث والكتابات الهادفة إلى استخلاص laquo;منهجية القرآن المعرفيةraquo;، أو laquo;نظرية المعرفة القرآنيةraquo;، أو ما شابه ذلك من تعابير أسلوبية مختلفة في الكلم واللفظ، ومتقاربة في المعنى والدلالة. والسؤال الذي يطرح هنا هو: ما دلالة هذه الكثرة من الكتب والأبحاث الهادفة إلى استنباط نظرية المعرفة من القرآن الكريم؟
لعل الحافز المحرك لهذه الأبحاث على اختلاف عناوينها وتسمياتها، هو أولا: إدراك أهمية تحديد النظام المعرفي بمدلوله المنطقي الكلي. وثانيا: الإيمان بأن القرآن هو أساس تفكير المسلم وسلوكه، ومن ثم وجب استمداد المنهج منه لا من غيره. وكما أن الفقه وأصوله يمنحنا النظرية المحددة للسلوك في جانبها التأسيسي المنهجي كأصول وقواعد كلية، وفي جانبها الجزئي كأحكام فرعية عملية، فإن السلوك العقلي ينبغي أن يحدد له هو أيضا نظريته الضابطة لعملياته.
غير أن السؤال الذي يطرح هو: إلى أي حد وصلت هذه الأبحاث إلى كشوفات جديدة في استخلاص قواعد التفكير من الوحي القرآني؟ وما الفارق بينها وبين النظرية الكلامية القديمة؟ وما قيمة هذه الكشوفات -إذا ما وجدت حقا- في رفد الوعي الإسلامي المعاصر وتطوير نظرته إلى مسائل الفكر؟
للجواب على هذه الاستفهامات نحتاج ولا شك إلى تناول كل محاولة على حدة، وذلك بسبب اختلاف كل باحث في تحديده لماهية المسألة المعرفية، وترتيبه لإشكالاتها، وطبيعة الأجوبة التي يصل إليها تأمله في آي القرآن الكريم. ومعلوم أن طبيعة فهم الباحث لمعنى نظرية المعرفة، ومستوى فهمه للإسلام، ومستوى تكوينه المعرفي.. كل هذا وذاك يوجهه اتجاها خاصا في قراءة الآيات القرآنية والاستنباط منها. وللاستدلال على ذلك يكفي قراءة هذه الأبحاث بلحاظ المقارنة، حيث ستجد أن ما ينتهي إليه مثلا محمد أبوالقاسم حاج حمد في كتابه laquo;منهجية القرآن المعرفيةraquo; -وهو كتاب لا يختلف في شيء عن تصوراته الشخصية السابقة التي كان قد سطرها في كتابه المشهور laquo;العالمية الإسلامية الثانيةraquo; - هو محصول نظري يختلف عما ينتهي إليه مثلا راجح عبدالحميد الكردي في كتابه laquo;نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفةraquo;. وهما معا مباينان لمحصول دراسة غالب حسن في كتابه laquo;نظرية العلم في القرآنraquo;. وهؤلاء الباحثون الثلاثة يختلفون في تصوراتهم مع بحث laquo;العلم والإيمان، مدخل إلى نظرية المعرفة في الإسلامraquo; لإبراهيم أحمد عمر..
وليس في هذا التباين والاختلاف ما يشفع الاندهاش والاستغراب، بل الذي يوجب الاندهاش هو أن تتفق هذه الأبحاث على ترسيم تفاصيل ما يسمى بـ laquo;نظرية المعرفة القرآنيةraquo; وليس العكس. فالقرآن الكريم أوسع من أن يحيط بكل دلالاته نظر باحث، وأعمق من أن يصل إلى كل مكامنه إدراك قارئ متأمل. لذا فهو معطى نقترب منه بحسب شروط التفكير المتحكمة في وعينا، والمحددة لاتجاهنا في النظر.
لكن ما قيمة التنصيص على أمور كهذه قد تبدو من البديهيات؟
إن الكثير مما يبدو من البديهيات المسلمة نناقضها خلال التفكير، بوعي أو بلا وعي. ولذا فتكرار تلك الحقيقة هنا هدفه الاحتراس القبلي من أي بحث يزعم أن المنهجية المعرفية المستنبطة هي بالتحديد والحصر من منطوق القرآن ذاته؛ لأن الحقيقة هي أن كل ذلك مجرد حصيلة تفاعل الفهم البشري النسبي مع القرآن المطلق. ويمكن للنسبي أن يقترب من المطلق لكنه لن يطابقه ولن يحتويه. وهذا هو الشرط الضامن لحراك فكر المجتهد المسلم وتسامحه مع مخالفيه.