مرح البقاعي

تكاد تكون واقعة الرابع من تشرين الثاني للعام 1979 في السفارة الأميركية بطهران واتخاذ الديبلوماسيين الأميركيين في حينها رهائن لمدة 444 يوما، حجر الأساس لدراما الارتجاج الأمني والنزوع الجهادي الانتحاري الذي يحمل هوية محاربة quot;النصارىquot; وثقافتهم في الغرب الأميركي ـ العدو، وذلك في شريط من العنف الموصول اندلع متواقتا مع اضطرام الثورة الخمينيّة منذ نيف وثلاثين عاما، مارّا بتفجير مقر مشاة البحرية الأميركية في بيروت في العام 1983، بالغاً ذروته العنفيّة في هجمات الحادي عشر من أيلول الانتحارية في العام 2001، وهذه المرة في العقر من الدار الأميركية.
اتخذت إدارة الرئيس جيمي كارتر الديمقراطية قرار دعم ثورة الإمام الخميني إثر اشتداد أوارها، مُشَيِّدة قرارها هذا على نظرية quot;الحزام الأخضرquot; التي صاغها آنذاك مستشار الأمن الوطني في حكومة كارتر زيبغنيو بريجنسكي، والتي مفادها أن نشوء أنظمة إسلامية في منطقة الشرق الأوسط، مدعومة أميركياً، سيكون بإمكانها، وبما لديها من دعم جماهيري قاعدته الإسلام، أن تشكل بدائل حقيقية للنظم الاستبدادية القائمة من جهة، وأن تكبح جماح حركات اليسار المناصرة للاتحاد السوفييتي، قبل انحلال عقده، من أخرى.
أما لغة الاعتذار والاستعطاف التي تعامل بها الرئيس كارتر خلال أزمة الرهائن، كأن يخاطب الخميني مباشرة، في رسالة خطية خاصة منه، ملتمسا حل مشكلة الرهائن من quot;رجل يؤمن باللهquot;، ناهيك عن لهجة مبعوثه للأمم المتحدة، أندرو يونغ، الذي توسل لآية الله الخميني أن يظهر quot;شهامة ورحمةquot; مطلقا عليه صفة quot;قديس القرن العشرينquot;، فقد جاءت لتغذّي النزعة العنفيّة لدى المجموعات الإسلامية المتطرفة، وتؤجج لغة التعنت في التعامل مع الأميركيين لما لمسوا فيهم من ضعف وتخبّط في مواجهة مشهد ديبلوماسييهم يساقون معصوبي الأعين ومكبلي الأذرع أمام كاميرات العالم؛ ما دفع بالرئيس الجمهوري رونالد بريغان أن يخاطب الخميني حال فوزه على منافسه الديمقراطي كارتر في انتخابات الرئاسة للعام 1980 قائلا: quot;لو كنت في موقعك لسعيت إلى التوصل إلى حل مع كارتر فهو رجل لطيف، وأنا على ثقة من أن موقفي حينما أصل إلى البيت الأبيض حيال هذه القضية لن يعجبكquot;! أما ردّ الفعل الإيراني فجاء مباشرا وحاسما بإطلاق سراح الرهائن الأميركيين في اليوم الأول لدخول الرئيس ريغان ومباشرته لمهامه الرئاسية من المكتب البيضاوي.
هذه العلاقة الملتبسة بين الولايات المتحدة وإيران ما لبثت تثير إشارات الاستفهام، والتعجب أيضا، على غير صعيد. فعلاقة المد والجزر بين البلدين quot;العدويّنquot; إنما تخضع لبوصلة المصالح الاستراتيجية التي تتفاوت بين تقارب وتباعد في غير منطقة من العالم. فأولوياتهما الإستراتيجية المشتركة كانت قد جمعتهما خلال الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 حين سقط نظام طالبان الأصولي هناك، وشعرت إيران بالبراء من وجع التشنج السلفي في خاصرتها اليمنى؛ بينما استأصل الأميركيون نظام صدام حسين القومي عن خاصرتها اليسرى، فكانت العافية السياسية الإيرانية في بدر اكتمالها.
من نافل القول ان لإيران طموحها النوويّ المُلحّ، معزّزاً بهاجسها الإمبراطوري التليد. وهي ما فتئت تسعى لامتلاك أوراق رابحة على الساحة الدولية تقايض بواسطتها مضيّها في هذين المشروعين. ومنذ الاحتلال الأميركي للعراق في نيسان من العام 2003 لعبت إيران دور محامي الشيطان المزدوج المهام في المسألة العراقية، وسعت بانتظام إلى الاتخاذ من نفوذها المذهبي هناك ورقة ضاغطة لمساومة الأميركيين وشراء صمتهم خلال سعيها لامتلاك السلاح النووي، ومدّ حبال نفوذها الإقليمي، والتمادي في استعراض عنجهيتها على مسمع ومرأى من دول الجوار وعلى رأسها دول الخليج quot;الفارسيquot; كما يطيب لإيران quot;الفارسيةquot; أن تدعوه.
فصل المقال هنا يأتي على لسان ويد ابن الثورة الخمينية الأسبق، وزعيم المعارضة الإصلاحية الحالي، مير حسين موسوي، الذي ترأس الحكومة الإيرانية في فترة حربها مع العراق بين عامي 1980-1988، حين أقرّ علنا بفشل الثورة الإسلامية قائلا: quot;إن الحركة الخضراء لن تتخلى عن معركتها السلمية إلى أن يتم مراعاة حقوق الشعب كاملةquot;. وهو لا يتوانى أن يدحض شرعية دكتاتورية ما بعد الشاه، التي قامت باسم الدين، مؤكدا في تصريح له على موقعه الالكتروني: كلمة، أن quot;جذور الظلم والدكتاتورية مازالت موجودة في إيران، وأن الثورة الإسلامية لم تحقق أهدافها بإلغاء الاستبداد من البلادquot;، مشيراً إلى أن quot;كمّ أفواه الإعلام، وزجّ الإصلاحيين في السجون، وانتهاج العنف المنظّم في مواجهة المواطنين العزل الذين يطالبون سلميا في الشارع باحترام حقوقهم، لهو دليل دامغ على أن مظاهر العسف والتسلط التي سادت في حقبة الشاه مازالت حيّة ترزق، تحرسها عصيّ ورشاشات الباسيج المسعورةquot;.
هكذا، بينquot;الحزام الأخضرquot; الكارتري 1979، وquot;الحركة الخضراءquot; الموسوية 2010، وبين رحيل الاتحاد السوفييتي وبقاء المستبدّين، يقف المراقب للشأن الإيراني حائرا في قراءة الأوراق الإيرانية ـ الأميركية، التي بدأ الحبر يتداخل فيها مختلطا بين الأحمر والأزرق والأخضر، بما يتعثر فكّ مفرداته، وتضيع منه شفرة اللغة لكشف طلاسم ذاك الرهاب الذي زجّ الطرفين، الأميركي والإيراني، في زواج متعة ممتدّ، مع سابق العمد والترصّد!