غسان الإمام


في الكلية العسكرية بحمص (سورية)، كان الجدل بين الضباط اللبنانيين يصل إلى حدود التضارب بالكراسي. كان الضابط فؤاد شهاب يُخَطِّئ يوسف العظمة. رأى شهاب المنحدر من أسرة مارونية كانت مسلمة، أن إقدام الشهيد العظمة على مواجهة الجيش الفرنسي الزاحف من لبنان إلى سورية، كان بمثابة انتحار عديم الجدوى، لعدم تكافؤ الجيشين.

كان الفرنسيون يستخدمون الضباط اللبنانيين والسوريين من خريجي كلية حمص، في laquo;جيش الشرقraquo; الرديف للقوات الفرنسية المحتلة. ومن هذا الجيش، تم تشكيل الجيشين السوري واللبناني (1945) بعد الاستقلال.

قوَّض الضباط السوريون الديمقراطية السورية الوليدة في انقلابات كلاسيكية مدمرة. أما زملاؤهم اللبنانيون فقد آثروا الالتزام بالديمقراطية اللبنانية الطائفية. ولم يكن سوى فؤاد شهاب أول قائد للجيش اللبناني (13 سنة). واقعيته المحافظة أرست هذه المؤسسة العسكرية، كقلعة مساندة لهيمنة المارونية السياسية على لبنان.

كان فؤاد شهاب، في حذره وتحفظه، أذكى من الرئيس كميل شمعون. راقب العسكري انتقال المشرق العربي من العصر الإنجليزي إلى العصر الأميركي. سقط شمعون (الإنجليزي) بثورة سنية / درزية حالت دون تجديد أو تمديد ولايته. ولم يكن أمام الأميركيين (الذين نزلوا في لبنان 1958) سوى مساندة شهاب للوصول إلى رئاسة الجمهورية.

كان شهاب ديغول لبنان الذي جنب لبنان مآسي اجتماعية وسياسية كبيرة. ساير شهاب عبد الناصر في سياسته العربية، في مقابل عدم إزعاج الناصريين لنظام شهاب في لبنان. نزاهة شهاب المطلقة لم تحل دون استخدامه المخابرات العسكرية (المكتب الثاني) في ضبط الأمن والساسة. لكن الزعماء الموارنة نجحوا في عدم التجديد له. على المستوى الاجتماعي نسي هؤلاء أن شهاب أرسى مبدأ العدالة الاجتماعية، عندما أسس نظام التأمينات الاجتماعية لمئات ألوف العمال والعاملين، فيما كان خصمه ريمون إده يباهي بأنه صاحب قانون laquo;الشقق المفروشةraquo; الذي استفاد منه كبار الممولين وأصحاب العقارات.

تمكن فؤاد شهاب من تأجيل الحرب المدنية نحو عشر سنين. لكن ضباط مخابراته ارتكبوا خطأ كبيرا بالسماح لقائد الجيش إميل بستاني بعقد اتفاق مع الفلسطينيين (1969) سمح لهم بحمل السلاح داخل المخيمات وخارجها. ثم ما لبثوا أن تورطوا في الحرب الأهلية (1975).

تميزت المرحلة الأولى من الحرب بتدخل عسكري سوري (1976). ثم باجتياح عسكري إسرائيلي (1982). وإنزال أميركي / فرنسي في أعقابه. أجبر الإسرائيليون قيادة عرفات على مغادرة لبنان. لكن الحرب الأهلية فرطت عقد الجيش اللبناني. تفرق ألوية طائفية. كان الفضل للميليشيا الدرزية في إنقاذ سنة بيروت من هيمنة لواء مسيحي ثم لواء شيعي.

سارعت القوات السورية إلى العودة إلى بيروت لحرمان وليد جنبلاط من نصره الكبير، فيما أوكلت إلى شيعة laquo;أملraquo; نبيه بري تأديب المخيمات الفلسطينية التي عاد رجال عرفات إلى التمترس فيها.

كان مقتل الرئيس بشير الجميل الذي جاء به العصر الإسرائيلي فرصة مناسبة للصعود السياسي والعسكري لنجم ضابط ماروني عنيد وشجاع. نجح العماد ميشال عون الذي أصبح قائدا للجيش (1984) في صد هجوم درزي / فلسطيني مدعوم سوريا، على جبهة laquo;سوق الغربraquo;.

وحال عون دون الوصول إلى قصر بعبدا مقر الرئاسة المارونية، وتهديد بيروت الشرقية (المسيحية). وكان للسلاح الأميركي، ثم العراقي، دور كبير في تعزيز قوامه.

فرض عون هيمنته على الرئيس أمين الجميل. لكن ما لبث أن اصطدم جيشه بالميليشيا المسيحية التي يقودها سمير جعجع، هزم المسيحيون أنفسهم بأنفسهم. خسروا الحرب. سقط زعماؤهم الثلاثة (الجميل. عون. جعجع).

في التسعينات، أحكمت سورية قبضتها على لبنان. لكي تفرض الاستقرار والأمن، أنهت laquo;حرب الرهائنraquo; بين المخابرات الإيرانية والغربية. أوكلت إلى العماد إميل لحود إعادة بناء الجيش اللبناني كدرع للشرعية اللبنانية التي استعادت عافيتها بفضل اتفاق الطائف في السعودية (1989). واكب النفوذ السياسي السعودي الصاعد دور الشرطي السوري. غير أن المصادفة تشاء أن ينشأ خلاف حول ميزانية الجيش وحكومات الحريري المتتابعة المدعومة سعوديا. كان التمديد للحود (الذي أصبح رئيسا) ثلاث سنوات أخرى بمثابة كارثة على نفوذ الحريري الأب. اختلف مع سورية. أقصي عن الحكم. ثم ما لبث أن اغتيل في عام 2005. كان لحود رئيسا صادقا في مجاهرته بعروبة لبنان. لكن اعتماده المطلق على نظام الأسد الأب اضطره إلى التحالف مع حليفيه في لبنان (حزب الله. حركة أمل) ضد خصومهما من دروز وسنة وموارنة. في ظروف الاستقطاب هذه، كان لا بد من الإتيان برئيس أكثر حيادا وتعقلا. وهكذا، تم انتخاب قائد آخر للجيش رئيسا (العماد ميشال سليمان).

في حروبه مع إسرائيل، تسبب حزب الله بمقتل 1200 شيعي كانوا ضحايا الهمجية الجوية الإسرائيلية. كما تسبب بإنزال قوات دولية في الجنوب للفصل بين ميليشيا الحزب والقوات الإسرائيلية. فانكفأ الحزب إلى الداخل اللبناني، مستغلا وهج نصره بطرد القوات الإسرائيلية (2000) ثم بصموده في حرب 2006، في إلقاء ظلٍ سلاحي مهدد وثقيل، على اللعبة الطائفية التقليدية.

أدَّبَت القوات السورية مرارا ميليشيا حزب الله. لكن بعد انسحابها عسكريا من لبنان (2005)، لم يتمكن الجيش اللبناني من منع تجاوزات حزب الله الخطيرة: الاعتصام في وسط بيروت. محاصرة سراي الحكومة (مقر رئيس الحكومة السني). شل الحركة الاقتصادية والسياحية. اجتياح بيروت السنية عسكريا (2002) الذي ما يزال مهيمنا أمنيا عليها. بل لم تستطع المخابرات العسكرية والمدنية حل لغز الاغتيالات المروعة التي أعقبت اغتيال الحريري، على الرغم من نجاحها الكبير في تفكيك شبكات التجسس والعمالة لإسرائيل.

معظم الحروب الحديثة نشأت نتيجة للخلاف على رسم الحدود. كان الاشتباك الأخير بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي نتيجة لتحفظ لبنان على laquo;الخط الأزرقraquo; الذي رسمته الأمم المتحدة في عام 2000. كان الخط لصالح إسرائيل. كان يختلف عن حدود لبنان الأصلية مع فلسطين. الإسرائيليون يدمرون البيئة. يقتلون الأشجار. يجرفون الخضرة في لبنان والضفة.

الحق على الطليان الذين دفعوا الجزية لطالبان في أفغانستان. القوات الإيطالية، حرصا على سلامتها، ترفض منع ارتكابات إسرائيل على الأرض المتنازع عليها في لبنان.

أما العرب فقد اخترقوا صمت جيوشهم بدوي التصفيق للجيش اللبناني. هل بات هذا الجيش الصغير جيش المواجهة الوحيد مع إسرائيل؟! في حالة إجبار إيران حزب الله على الاشتباك مع إسرائيل، ردا على هجوم إسرائيلي على إيران، فالجيش اللبناني يبدو مضطرا لمساندة الحزب.

في الماضي، قام الجيش بدور laquo;شرطي البلديةraquo; الذي يفصل بين الطوائف المتناحرة. في الحاضر، يبدو المستقبل لغزا عسكريا محيرا: إن حارب الجيش إسرائيل مع حزب الله، وَبَّخته أميركا وفرنسا اللتان تقولان إنهما تسلحانه ضد حزب الله. وإسرائيل توبِّخهما على تسليحه. إن وقف الجيش على الحياد في الحرب، سحب حزب الله عسكر الشيعة من صفوفه.