الرباط - يحيى بن الوليد


قبل منتصف ليلة السبت (31/07/2010)، وبحوالي نصف ساعة، هاتفني الصديق الأعز نجيب بنعلي مخبرا إياي برحيل 'السي أحمد'، ونقلت له على الفور تعازي الحارة. وبعد ذلك عدت إلى المطعم الذي كنت أتواجد فيه رفقة الشاعر السعودي الصديق محمد الضامن. وعلى الرغم من أن الرجل كان مصيره معروفا بالنظر إلى المرض الذي أقعده منذ مدة فقد اعتراني نوع من الذهول لم أتغلب عليه إلا بسرد عناوين الرجل ومحاولة تلخيص تجربته الطويلة للأصدقاء. وختمت بدواخلي وبذلك تطوى صفحة أخرى من صفحات 'زمننا الثقافي المغربي القاسي'.

والمؤكد أن المقصود، هنا، هو أحمد عبد السلام البقالي (1930 ــ 2010) الأديب المغربي الأصيل والمتميز والنادر الذي ينتمي لجيل الرواد الذي لم يتبق منه إلا أسماء لا تتجاوز أصابع اليد. وهو الجيل الذي كان وراء أعطاء الأدب المغربي الحديث صورة 'قطعت' مع 'التصور الفقهي الإصلاحي' الذي كان لا يزال يهيمن، وبكثافة، حتى الخمسينيات النازلة. وعلى هذا المستوى كان أحمد عبد السلام البقالي قد تمكن من أن يؤشر على حضوره اللافت منذ بدايته الأولى، ولا سيما في دنيا القص الفاتنة التي كان بعض النقاد (وبكثير من التجاوز بخصوص التسمية، هنا) يشككون فيها بالنظر لجذور القصة الأوروبانية' 'التخريبية'. وكان صاحب 'النبوغ المغربي في الأدب العربي' العلامة والبحّاثة عبد الله كنون، وكان وقتذاك، 'سلطة ثقافية وأخلاقية'، أول من عارض، وبطريقة مهذبة، تحول البقالي من الشعر، والشعر المسرحي، إلى النوع القصصي أو 'أهون سبيل' كما نعتها. وهو الموقف ذاته الذي عبّر عنه محمد داوود الذي كان بدوره 'سلطة ثقافية' في شمال المغرب. وكان لمثل هذا التصور ما يبرره، وقتذاك، وسواء بالنظر إلى تراتبية الأنواع التي سادت في الثقافة العربية الكلاسيكية أو بالنظر إلى ما كان يروج في المشرق من آراء وتصورات نقدية ولا سيما مواقف العقاد التي كانت تنتقص من القصة في نطاق ما كان يعرف بـ'بلاغة الخرنوب' و'قنطار خشب ودرهم حلاوة'.

غير أنه يجب التذكير، هنا، أن البقالي لم يتأثر بالأدب المشرقي، وهو ما يؤكده في 'شهادة' له، وهو ما تؤكده أعماله، بدورها، وابتداءً. غير أن أهم ما ستحققه له القاهرة، والتي سيدرس بها لمدة، نشره لعمله الأول 'قصص من المغرب' الذي سيصدر عن المطبعة العالمية بالقاهرة العام 1957. والظاهر أن الحرص على استحضار مفردة 'المغرب'، وعلى مستوى العنوان، تعيينا، كان بدافع من الرغبة، الخفية، في التأكيد على التحرر من 'التأثير المشرقي'. هذا بالإضافة إلى أن هناك 'بلدا'، وكان لا يزال مجهولا، وقتذاك، يمكن أن تأتي منه 'قصص'.

وفي الحق فنحن لا نرغب، هنا، في الحديث عن أحمد عبد السلام البقالي، الكاتب والشاعر، ذلك أن عملا من هذا النوع هو ما سعينا إلى القيام به في كتاب نقدي لنا سيصدر، وتحت عنوان 'مسارات أحمد عبد السلام البقالي'، في الأسبوع القادم. وقد سعينا، في الدراسة، إلى استخلاص 'النسق' الذي يصدر عنه صاحب 'يد المحبة' في كتاباته الغزيرة التي تصل ما بين الشعر والمسرحية الشعرية والقصة والرواية البوليسية وأدب الخيال العلمي والمقال الأدبي وأدب الأطفال الذي برز فيه أكثر بل وضمن له، وإلى جانب 'الطوفان الأزرق'، مكانا لائقا في خريطة الأدب العربي المعاصر ككل.

ولا أخفي أنني لم ألتق بالرجل إلا مرة واحدة، وحصل ذلك بفندق 'الخيمة' بأصيلا، ويوم كان هذا الفندق في ملكية رجل نادر، ومتفهم للثقافة، وبشهادة الكثيرين، وهو الرجل الذي أهديت له كتابي النقدي حول محمد شكري والموسوم بـ'تدمير النسق الكولونيالي' الذي سيظهر في المعرض الدولي القادم للكتاب. وهو الرجل الذي افتتحت به سقف المقال هذا. وما كنت لألتقي بالرجل لولا الصديق الآخر حسن نجمي، ويوم كان على رأس اتحاد كتاب المغرب، الذي طلب مني أن أقنع أحمد عبد السلام البقالي بفكرة ندوة وطنية وازنة تعقد حول منجزه الأدبي والثقافي. غير أن هذا الأخير اعتذر، بلطف ولباقة، بدليل أن 'ظروفه لا تسمح'. وبعد ذلك تشعب الحديث بيننا حول قضايا أخرى ذات صلة بأصيلا التي أحبها الرجل بل وكتب عنها الكثير. وعلى الرغم من أن الأصدقاء، في جمعية محلية بأصيلا ('جمعية الإمام الأصيلي') عقدوا للرجل ندوة، وهي متضمنة في مجلة 'مواسم' (المغربية) (العدد 13/ 14، صيف 2000 ــ خريف 2001)، فقد تأسفت للندوة السابقة التي حرصت على تسطير محاورها الكبرى التي كانت ستقدم نظرة مركبة ومتكاملة لمنجز الرجل. غير أنه حتى الآن لا تزال الأوراق مفتوحة، ولا تزال جميع الأفكار واردة.

ولا أتصور أن الرجل تعرض لـ'ظلم محلي' كما أخذ يردد البعض بعد وفاته، وخصوصا بعد دخول بعض 'الأقلام المأجورة' في 'خط الكتابة'. ذلك أن البقالي من الصنف الذي أثبت وجوده بـ'نصوصه' التي ستظل شاهدة عليه موازاة مع 'آرائه' التي نعدها، بدورنا، 'ظرفية' و'خلافية'. غير أنه لا يمكن أن نعزل الرجل عن مدينة أصيلا كفضاء وذاكرة... وكمدينة كانت معروفة قبل 'مهرجانها الإعلامي' الذي لا يضع مسافة، ولو صغيرة، وحتى الآن، بين 'أخلاقية الثقافة' و'لا أخلاقيات التجارة' كما انتقدناه من قبل. ونصوص البقالي تشهد على الفضاء والذاكرة، وتشهد على أصيلا (وكما ينطقها المؤرخون المكرسون) يوم كانت أصيلة، ويوم كانت بمنأى عن 'العيون قصيرة النظر' التي سعت إلى تحويلها إلى 'فيترينة' ظاهرها نظيف وباطنها سخيف.

ونصوص البقالي، التي قرأناها بتأثر وحب عاطفيين، دالة على العمق الإنساني والصفاء المكاني. ولا أحد، من القراء الصغار والكبار، وبأصيلا، لم تناله ذبابة 'قصص من المغرب' ببطلها الشاطر حسن الذي 'ضحى' بالمغرب من أجل الارتماء في أحضان الغرب؛ وآمل أن يسعفني الوقت على تقديم 'دراسة ما كولونيالية' مطولة لهذا النص الفاتن والآسر. أجيال بأكملها قرأت العمل، بل ونهشته، بالمكتبة البلدية العامرة التي لم يعد لها الآن من أثر. وأتمنى لو أن مخرجا سينمائيا يلتفت إلى هذا النص المكتوب أصلا بحس سينمائي حتى نقف عند 'حجم المسوخ' التي طالت المكان والذاكرة.

وأتصور أن المدينة في حاجة إلى صنف البقالي وسواه من الذين حرصوا على الانتساب، قلما ولحما، إلى 'جغرافيتها الأمامية والخلفية'، وخصوصا في ظل 'سيل الكتابات السياحية المأجورة' التي تسعى إلى الإيهام بـ'لوثة المطابقة' و'تقديم النظرة الإجمالية'. والرجل نخلة أصيلة ومن غير صنف النخيل الذي يفسد من حين لآخر، بل وسيظل يفسد ويتعفن ما دام قد زرع في تربة غير تربته. فالثقافة بدورها تسهم في تزكية الأشجار. وأصيلا في حاجة إلى عدم تلطيخها بأسماء وازنة ومحترمة، فليس هناك ما هو أبشع من 'الاستغلال الرخيص'. ولا أعرف ما الذي يمنع، وحتى الآن، من تسمية شوارع 'مدينة الفنون' بأسماء بعض مبدعيها وكتابها وشخصياتها العامة.

وآمل هذه المرة أن يتم الانحناء قليلا أمام قامة بحجم قامة أحمد عبد السلام البقالي التي تحدرت من والدين شريفين من زاويتين شهيرتين بالمدينة (الزاوية الغيلانية والبقالية). وآمل أن يتم تكريم الرجل بما يليق بحجمه الطبيعي وبرمزيته الإنسانية. والمؤكد أنه في غير حاجة إلى البهرجة، ذلك أنه كان، وكتابة، من الذين انتقدوا، وبصوت المؤذن، 'المهرجانجية'. ومن جهتي أناشد الجهات الرسمية، ومن خارج المدينة، أن تمد يد العون لعائلة الرجل التي تلقفت، وبتفهم كبير، فكرة إنشاء مؤسسة ثقافية تحفظ ميراث الرجل الثري وبالقدر ذاته تضمن استمراريته، وخصوصا أننا في زمن صارت فيه جميع الأشياء الجميلة مهددة بالتبعثر والتشظي. وهذا ما قلته في حفل تأبين الرجل وعلى مرأى ومسمع من شخصيات نافذة في هرم الدولة التي انتسب لها البقالي، وعبر منصب حسّاس ووازن، لكن دون أن يفرط في 'الحضور المستقل' للكاتب الذي هو مدار هذا المقال.