شريف عبدالغني


إنها حالة جديدة في الشارع المصري.. حرب ملصقات بين أنصار التغيير بقيادة الدكتور محمد البرادعي ويأتي من بعده أسماء معارضة مثل أيمن نور وحمدين صباحي، وبين مؤيدي ما يسمى بالاستقرار الذي أصبح في العرف المصري laquo;جموداraquo;. وحسب الفئة الأخيرة إذا ترشح الرئيس مبارك في انتخابات الرئاسة العام المقبل فخير وبركة، وفي حال عدم رغبته فليس هناك سوى نجله جمال، باعتبار أن laquo;هذا الشبل من ذاك الأسدraquo; وهي العبارة التي رفعها صاحب أحد محلات الكشري في حي إمبابة الشعبي الفقير بالقاهرة، مصحوبة بصورتين للرئيس ووريثه المنتظر! محبو البرادعي ينطلقون من فكرة أن ترسيخ حكم ديمقراطي كفيل بتحسين الأوضاع المعيشية للمصريين، وعاشقو آل مبارك يتحدثون عن مزيد من laquo;الإنجازاتraquo;، مع مداعبة خيال الفقراء بأن laquo;مبارك الثانيraquo; في حال وصوله للسلطة سيأمر البنوك بمنح كل مواطن قرضا قيمته عشرة آلاف جنيه يسدده دون فوائد laquo;وبراحته على الآخرraquo;، يعني أن كلما توفر معه ربع جنيه يمكن أن يسدده من القرض. ووصل الصراع بين الطرفين إلى الشبكة العنكبوتية، فالداعمون لكل طرف يستخدمون laquo;فيس بوكraquo; كساحة ترويج. فريق البرادعي بدأ المواجهة في الشارع والإنترنت، ولم يترك منافسوهم هذه الساحة خالية منهم ومن laquo;جمالraquo;، وأنشؤوا صفحة على laquo;فيس بوكraquo; عنوانها laquo;نعم لجمال مباركraquo;، لكنهم تلقوا ضربة شديدة من laquo;هاكرزraquo; مجهولين عرفوا أنفسهم بـ laquo;شباب بيحب مصرraquo; استولوا على الصفحة وحولوها إلى laquo;مرفوض.. غير مرغوب فيكraquo;، كما كتب أحدهم ساخرا: laquo;جمال مبارك لا يستطيع أن يدير صفحة على (الفيس بوك) فهل تعتقدون أنه يستطيع أن يدير دولة؟raquo;، وقال آخر: laquo;الحق يا جمال يا مبارك الصفحة بتاعتك اتسرقت منكraquo;.
المفارقة أن هذا الصراع يشغل بال عدد ضئيل من عموم الـ80 مليون مصري، بعدما نجح النظام الحالي بجدارة، وبشكل يستدعى منافسة أليسا على جائزة laquo;الميوزيك أووردraquo;، في أن يشغل المصريين بالبحث عن لقمة العيش، ثم التفكير في هموم أمراضهم المتوطنة، ولعب النظام لعبة خبيثة طوال الثلاثين عاما الماضية، حيث عمل على نشر ثقافة الفساد بين عموم الناس. لقد كتبت في المقال الماضي -raquo;العربraquo; عدد الاثنين 9 أغسطس 2010- أن وزير التنمية الإدارية المصري قال مؤخرا إن أكبر مشكلة تواجه الجهاز الإداري للدولة هي laquo;الرشوةraquo; التي يطلبها كثير من موظفي الحكومة مقابل إنجاز أعمالهم. لكن الوزير لم يذكر الأسباب التي أدت إلى استشراء الرشاوى بين صفوف الموظفين. فالنظام يرفع الأسعار بينما تظل الرواتب ثابتة، حتى لو زادت الأخيرة فإنه يقابلها ارتفاع تسعيرة كثير من السلع الأساسية أضعافا مضاعفة، فماذا يفعل أصحاب الدخول المحدودة لمواجهة هذه الزيادة، النظام يترك كل واحد laquo;يقلب عيشهraquo; أي يتكسب مثلما يريد. الموظف يرتشي، وعسكري المرور يمد يده، والتاجر يغش، ورجل الأعمال يسرق، والمدرس يمص دم أولياء الأمور عبر الدروس الخصوصية، والصحافي يعمل لحساب المصدر الذي يغطيه لا لحساب جريدته والقراء. أما السبب فهو أن السلطة الفاسدة تعمل على إفساد الشعوب حتى تغض النظر عن فساد أولي أمرها. عندما تكون فاسدا ستصمت على فساد رئيسك في العمل، وهو لن يستطيع النطق بكلمة أمام فساد المسؤول الأعلى، وهكذا ندور كلنا في نفس الحلقة. الفاسد يفقد القدرة على نطق أهم كلمة في الحياة laquo;لاraquo;.. فيتحول إلى كائن بلا كرامة وبلا نخوة، فلا يطالب بحقوقه، ويكتفي بإتاوة يفرضها على هذا أو ابتزاز لآخر، يرضى بالذل والهوان ويتحول إلى دابة يركبها حكامه. وقبل هذا وبعده ترك النظام الأمراض تنهش في الشعب، فما أجمل وأسهل أن تحكم شعبا فاسدا مريضا!
إن حاكم مصر المقبل سيرث تركة ثقيلة جدا، فلا البرادعي ولا جمال يستطيعان حملها. في أميركا يسأل المواطن زميله: أنت laquo;جمهوريraquo; أم laquo;ديمقراطيraquo;؟ نسبة إلى الحزبين الكبيرين هناك، أما في مصر فالسؤال: أنت laquo;أهلاويraquo; أم laquo;زملكاويraquo;.. laquo;فشل كلويraquo; ولا laquo;فيروس سيraquo;.. laquo;مرتشيraquo; أم تسدين.. ولذلك فلا البرادعي سيشفع ولا جمال سينفع في مواجهة هذا كله، مع الإشارة إلى مشاركة الأخير في السلطة خلال السنوات العشر الأخيرة وبالتالي تحمله جزءا من مسؤولية الأوضاع الراهنة. مصر بحاجة إلى laquo;نبيraquo;، يقيم مجتمعا جديدا خاليا من الأمراض والفساد والجهل والخرافة. يعيد المصري مسالما لا مستسلما.. شجاعا لا خانعا.. قائدا لا خاضعا.. laquo;ابتداعياraquo; لا laquo;اتباعياraquo;. وقد تكون مهمة laquo;النبي المنتظرraquo; أصعب من مهمة الأنبياء والرسل الحقيقيين، فهؤلاء قسموا المجتمع إلى فسطاطين laquo;الكفرraquo; وraquo;الإيمانraquo; وانطلقوا من الفسطاط الأخير نحو إقناع laquo;الكفرةraquo; بالدعوة والرسالة، أما المجتمع الحالي فالكل تداخل في بعضه ولا يعرف laquo;النبي الجديدraquo; من أين يبدأ، ولا كيف ينطلق، ومن معه ومن ضده، ومن يدخل فسطاط laquo;التغييرraquo;، ومن يتمسك بفسطاط laquo;الجمودraquo;، خاصة أن مشكلة مصر الإضافية أن نخبتها قد لا تقل فسادا عن سلطتها. فمعظم الأحزاب القائمة هي صنيعة رجال الحكم لاستكمال الديكور الديمقراطي، وعدد كبير من المعارضين يؤدون دورا مرسوما لهم، وبعضهم كان حكوميا وذهب ليأخذ نصيبه من laquo;تورتةraquo; السلطة، فلما لم يجد laquo;فتفوتةraquo; واحدة منها ثار وغضب واتجه لمطبخ المعارضة.
عندما تكون السلطة جاهلة جهولة، فإن أبواقها تخرج من نفس طينتها، وقد أطلقت مؤخرا جيوشا من الصحافيين الذين يتميزون بجهل من النوع العصامي، لتشويه صورة البرادعي الذي يعد -سواء اتفقت معه أو اختلفت- أحد أنقى الرموز المصرية، وبغض النظر عن مكانته الدولية، فإنه سبق ورفض إغراءات الحكم الذي عرض عليه -باعتراف مسؤوليه- منصب وزير الخارجية. هؤلاء الجهلاء -أعضاء حملة تحطيم البرادعي- هم سادة الساحة حاليا، بشكل يؤكد أن مصر انحدرت حتى طمع فيها laquo;الرويبضةraquo;، ووصلت لـ laquo;السنين الخداعاتraquo; التي حذرنا منها الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: laquo;سيخوّن فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن، ويكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، وينطق فيها الرويبضةraquo;.. قالوا: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: laquo;الرجل التافه يتكلم في أمر العامةraquo;.
حاكم مصر المقبل يجب أن يكون نبيا حتى يستطيع مواجهة مربع laquo;الفسادraquo; وraquo;الفقرraquo; وraquo;المرضraquo;.. وraquo;الرويبضةraquo;!!