عمر كوش

السمة الغالبة لمشاريع وخطط التغيير الخارجية في منطقة الشرق الأوسط، التي طرحت بعد تفجيرات 11 أيلول 2001 هي سمة اختزالية، تطرح المقدمات من دون ربطها بالنتائج، ومن دون النظر إلى مجمل المسببات فيما آلت إليه الأمور في الامتداد الجيوسياسي والاجتماعي الواسع للبلدان العربية والإسلامية. واتخذت تسميات مختلفة، تمحورت حول شعار quot;نشر الديموقراطيةquot; والحريات وحقوق الإنسان وسواها، لكنها ابتعدت عن دعم التنمية وتحسين الأداء الاقتصادي، بما ينعكس إيجاباً على شعوب هذه البلدان، وخاصة الفئات الفقيرة والمهمشة والضعيفة، كونها صدرت عن الفئة المتحكمة في القرار الأميركي في عهد الإدارة السابقة، التي كانت تمثل نخبة تعيش في رخاء، وتحمل توجهات إيديولوجية تغييرية، ترى العالم من خلال معياريتها الضيقة، ولا تحتمل تعدد التوجهات والثقافات، واعتقدت أن المشاريع والخطط التي أطلقتها ستتحول إلى حقائق على الأرض عن طريق التلويح بالقوة واستخدامها.
وكان واضحاً أن الهدف من الوصفات ومشاريع التغيير الخارجية هو تغيير تركيبة هذه البلدان، ولو بالقوة، من خلال سياسة هجومية تسعى إلى توكيل القوة العسكرية المهمة، والتي عملت في المثال الأفغانستاني والعراقي، على تفتيت البلاد وخرابها بعد تدمير الدولة، والنتيجة هي ضياع العراق تحت مسمى quot;العراق الجديدquot;، الذي رجع إلى الوراء عشرات السنين، وربما مئات، وحظي ببعض مظاهر ديمقراطية شكلانية، يتقاذفها العنف، وتسرح فيها الطائفيات والمذهبيات السياسية.
دخل العراق بعد الاحتلال في حال من الدمار والفوضى، وكانت الفوضى التي وصفت له، وحققتها الغزو الأميركي، quot;خلّاقةquot;، لكنها لم تخلق سوى الضياع والتفتيت، وبالتالي فإن الوصفة التي طبقت عليه، كانت نتيجتها التقسيم والتفتيت وخلق كيانات متصارعة، لا قاسم مشترك بينها سوى الاقتتال المذهبي والطائفي والاثني، والحصول على المكاسب الضيقة على حساب وحدة الشعب والأرض.
لقد نُظر إلى المنطقة العربية بوصفها كتلة هلامية غير محددة تماماً، الأمر الذي طبع مشاريع الدمقرطة الخارجية بسمة عمومية اختزالية، تطوي تحتها وجود اختلافات كثيرة بين عشرات الأنظمة في الشرق الأوسط quot;الكبيرquot;، وتطوي جميع المشاكل والأزمات والاختلافات والفروق في المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وفي نماذج السلطة وأدوات الحكم، كما في أحوال ووسائل العيش، الأمر الذي عنى أن يفعل الاستسهال فعله في جمع هذا العدد من الدول والشعوب تحت مسمى واحد.
وكانت المنطقة العربية، ومعها الشرق الأوسط quot;الكبيرquot;، ضحية السياسات الاستعمارية، ثم تحولت إلى ضحية جديدة لصراع المصالح والنفوذ بين القوى العظمى خلال مرحلة الحرب الباردة. وقد حولتها تلك السياسات إلى كيانات ضعيفة تدفع أغلى الأثمان على التسلح والعسكرة، خصوصاً بعد خلق الكيان الصهيوني، وما زاد الطين بلّة أنها ابتليت بأنظمة شمولية مدعومة من طرف الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من الأوروبيين أو من طرف خصومها القدامى، فاستحالت إلى كيانات تعجّ بالأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية، وجرت عمليات حثيثة لإفشال خطط وبرامج التنمية الوطنية، والإبقاء على كياناتها، بوصفها مصدراً للخامات والمواد الأولية، وكأسواق لتصريف منتجاتها، ومحاصرة تطور مؤسسات المجتمع المدني، ومحاربة قواه الحية، والإبقاء على تبعية دول المنطقة للهيمنة والسيطرة.
وقد حاولت الإدارة الأميركية السابقة أن تنصّب نفسها قيّمة على الديمقراطية، وجعلت من أنظمتها السياسية شرطياً عالمياً، يحرص على تنفيذ مبادئ الديمقراطية، لكنها كانت تخفي أهدافها الحقيقة من وراء ذلك، مع العلم أن الديمقراطية قيمة إنسانية وسياسية، وهي وليدة الفكر والاجتماع الإنسانيين، وليست بحاجة إلى من يصدرها إلى الآخرين، أو يستوردها منهم، فهي ليست سلعة للبيع.
ويجد المطالبون بالديمقراطية في بلدان العربية أنفسهم خاسرين، في أيامنا هذه، لأن دعواتهم ومطالباتهم بالتغيير باتت تثير حفيظة الأنظمة العربية، كونها وجدت الذريعة التي تلصقها بالمشاريع والمخططات الأجنبية، وذلك بعد محاولات استثمار الدعوة إلى نشر الديمقراطية بغية تحقيق المصالح الإستراتيجية لقوى النفوذ في عالم اليوم. لكن ذلك لن يعفي الأنظمة من استحقاق التحول السلمي التدريجي نحو الديمقراطية. والديمقراطيون العرب لم ينتظروا فشل المشاريع والوصفات الأجنبية، كي يستمروا في المطالبة بالتغيير الديمقراطي السلمي، وهم يعون أن محاولات ومساعي القوى الخارجية تشكل عائقاً أكثر من كونها عنصر دفع، ومع معرفتهم أن التسلط والشمولية الداخليين هو أساس العلّة، إلا أنهم لم يقبلوا دعوة quot;نشر الديمقراطيةquot; لكي تكون عنصر تحرر داخلي وتبعية خارجية في الوقت نفسه، فضلاً عن أن البلدان العربية بحاجة إلى ربط الديمقراطية بالتنمية على مختلف المستويات، وخصوصاً على المستوى الإنساني، وبما يحقق أفضل السبل نحو بلوغ العدالة الاجتماعية.