محمد حسن علوان

هذا القرار الملكيّ، من وجهة نظري، لا علاقة له بتقييد حرية الرأي، بل هو متعلق بمنع التيارات من استخدام أسلحة غير مرخص بها (الفتوى) لتأجيج الصراع الاجتماعي الذي يراد به فرض الهيمنة الثقافية، وليس دفع عجلة التنمية والمدنية

الأمر الملكيّ بقصر الفتوى في السعودية على هيئة كبار العلماء أثار كما هو متوقع بعض الجدل المحلي والعالمي. وهو ليس جدلاً جديداً بطبيعة الحال بل امتدادٌ لما كان يثار حول مسألة الإفتاء في الآونة الأخيرة. حيثيات هذا الأمر الملكيّ وأبعاده وتأثيره وتوقيته كلها شؤون نالت بالتأكيد حقها من الدراسة والتمحيص قبل إطلاق الأمر تحت اعتبارات سياسية عليا، وهي مادة جيدة للتحليل السياسي لمن شاء ولكنها ليست محور هذه المقالة، بل محورها هو الطريقة التي قرأت بها التيّارات هذا الأمر الملكيّ، وكيف كانت ردود أفعالها.
تصرّ التيّارات في السعودية على أن تثير دائماً مستوى من الضجيج والفوضى يتطلب تدخلاً سياسياً يعيد الهدوء إلى الساحة ويلزم الجميع بالعودة إلى خانة (اللعب النظيف). التيارات، في صراعها البدائي المعتاد، لم تستنكف في العقود الأخيرة أن تخوض في سلوكيات تقلل من هيبتها المعنوية، وتشكك في عمقها الفكريّ، رغم علمها بالآثار السلبية لهذه السلوكيات على المدى البعيد، إلا أن الجميع مشغول بكسب الجولة القريبة وتحقيق الانتصارات الصغيرة، مدفوعين بحمى التغير المطّرد الذي يمر به المجتمع السعودي ثقافياً وفكرياً. ولم تستنكف التيارات أن تبدو بهذا الشكل غير الرزين في صراعها الاجتماعي، ولكنها تسعى بعد صدور الأمر الملكيّ إلى التنصل من صورة عدم الرزانة هذه عن طريق المسارعة بإلقاء اللوم على التيار الآخر، والإشارة بطرف إلى أنه ليس المعنيّ بهذا الأمر الملكيّ، في مناورة اجتماعية وإعلامية لتبرئة التيار من حيثياته.
وحديثنا عن التيارين معاً: الإسلاموي والليبرالويّ ضروري في محاولة رصد ردة الفعل على الأمر الملكيّ رغم أنه قد يبدو للجميع أن أزمة الفتاوى الأخيرة كانت صراعاً إسلاموياً/إسلاموياً لا علاقة للتيار الليبرالوي به، ولكننا لا يمكننا تحييد دور التيار الليبرالويّ في القضية لسببين: الأول، أن التيار الليبرالوي لم يكن متفرجاً على صراع الفتاوى الذي احتدم في الآونة الأخيرة، بل انفعل به بين تأييد وشجب، واستحسان واستنكار، وساهم بشكل أو بآخر في تأجيج هذا الصراع لدوافع مختلفة. والثاني، لأن قضية قصر الفتوى على نخبة بأمر سياسيّ قد تقسم الموقف الليبرالويّ بين مؤيد للقرار من حيث إنه يحدّ من شراسة الخصم الاجتماعيّ، وبين معارض له من حيث شبهة مساسه بحرية الرأي المقدسة في بنية التيار الفكرية. وثمة أسباب أخرى للتأييد والمعارضة على كل حال.
إذا رجعنا إلى بداية قضية الفتوى، نرى أن ما يدور داخل أروقة التيار الإسلامويّ من صراعات ليست فتنة طارئة ولا تقف وراءه أي مؤامرة، بل سنة التطور الاجتماعي الحتميّ التي تدفع بالتيار إلى الانقسام الجزئي. الطلاب يكبرون، والتيار يتوسع، والمجتمع يتغير، والنخب تتعدد، والأفكار تتشعب. وهذا أمر طبيعي لا ينبغي التوجس منه أو التباكي بنوستالجية مفرطة على الأيام التي كان التيار فيها يبدو متجانساً ومتكاتفاً ومتفقاً على كل شيء. تحلُّقُ التيار حول آراء ثابتة يعكس صورة وهمية بالقوة والتكاتف، ولكنه في الحقيقة يعبّر عن موات فكريّ يهدد التيار بالخروج من دائرة البدائل الثقافية المتاحة أمام مجتمع مستمر في الحياة.
لم يكن ثمة مستفيد من صراعات الفتوى الأخيرة. حتى الليبرالويون الذين لمسوا فيه إرهاصات تفكك في كيان التيار الخصم، لم تكن النتيجة لتصب في صالحهم. فالعدو العاقل خير من الصديق الجاهل. وعندما تنفرط هرميّة الإفتاء في داخل التيار الإسلاموي، ويصبح من المقبول إصدار الفتوى من مستويات مختلفة في التيار، فإن التيار الليبرالويّ سيناله نصيب من هذه الفتاوى أيضاً، لتضيف إلى معاناته السابقة بالإقصاء والتحريض الاجتماعي والتشويه المنهجي لأطروحاته وحراكه الثقافي. فالتساهل في إصدار الفتوى لا يعني بالضرورة انفتاحاً في التيار الإسلامويّ، بل ربما تدعيماً لمواقف المتشددين الذين برعوا مؤخراً في صناعة الفتاوى التي يضربون بها خصومهم أياً كانوا.
بمعنى آخر: إن تخفيض مستوى الأهليّة المطلوبة للمفتي في مجتمعٍ يمرّ بمرحلة صراع تياريّ محتدم يشبه تسريب حمولة من الأسلحة غير المشروعة إلى أيدي قبيلتين متحاربتين. النتيجة هي (حرب شوارع) فكرية لا يُرجى منها الوصول إلى مخاض ثقافيّ جديد، بل تدمير لمكتسبات الاستقرار الفكري والثقافي التي يحتاجها المجتمع في مرحلته الحالية وهو يشبُّ عن الطوق ويضع أسس مرحلته المدنية القادمة. ولهذا يأخذ التدخل السياسيّ شكلاً آخر غير ما هو مباشر ومقروء في ردود أفعال التيارين.
هذا القرار الملكيّ، من وجهة نظري، لا علاقة له بتقييد حرية الرأي، بل هو متعلق بمنع التيارات من استخدام أسلحة غير مرخص بها (الفتوى) لتأجيج الصراع الاجتماعي الذي يراد به فرض الهيمنة الثقافية، وليس دفع عجلة التنمية والمدنية. وهنا يكون تدخل القيادة السياسية بمنطلقاتها الإصلاحية واجباً، حتى لو بدا أن الأمر ليس إلا صراعاً داخلياً في أروقة التيار الإسلامويّ. ففي مجتمعٍ يتأثر ثلاثة أرباع سكانه بالفتوى، ويسيّرون حياتهم اليومية بموجبها، فإن الأمر ليس صراعاً داخل مظلة تيار واحد، بل هو أشبه بمعركةٍ تدور داخل مفاعل نوويّ، وتهدد بأن ينفجر ليضرّ بالمجتمع ككل. هذا الموقف الحرج يجعل التدخل السياسي الذي جاء على هيئة أمر ملكيّ حاسم متوقعاً، لأن المعنيّ هنا ليس سلامة التيار ولكن سلامة المجتمع ككل. ولعل المقالة القادمة تناقش الأسباب التي ربما أدت إلى تدهور أوضاع الفتوى مؤخراً من وجهة نظر اجتماعية.