عبدالزهرة الركابي

من حاضره المضطرب أمنياً وسياسياً، ينتظر العراق المحتل الانسحاب الأميركي الرسمي أو الشكلي في حقيقة الأمر، ضمن المدة الزمنية التي حددها الرئيس الأميركي اوباما في الربع الاخير من العام المقبل، وقد لمس المراقبون للشأن العراقي، ان واشنطن مرتاحة على ما يبدو لوضعها هناك، خصوصاً وأن مخططاتها في العزف على الوتر الطائفي قد أثمرت عن عدم تبلور مقاومة وطنية جامعة لوجودها، يكون بمقدورها إجبار أميركا على الانسحاب المهين.
كما ان مقولة وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس (الفوضى البناءة) راحت على الصعيد العملي تفعل مفعولها، حيث ان هذه الفوضى بدت طاغية على المشهد العراقي أمنياً وسياسياً، إلى حد ان جماعات المنطقة الخضراء ومنذ العام الفائت وحتى يومنا هذا، أفلت الزمام من يديها تماماً، وبدت في وضع مرتبك جداً لاسيما وأن التفجيرات والصواريخ راحت تطالها في عقر الدار، بينما صراعها المحتدم منذ خمس شهور على كراسي حكم المنطقة الخضراء، هو مصيبة أخرى من مصائب الاحتلال التي جلبها إلى هذا البلد المحتل.
ولو استشرفنا الحال الذي سيكون عليه العراق من هذا الواقع المزري إذا ما جاء موعد الانسحاب الأميركي، فإنّ كل القرائن المتوافرة حالياً والمدعمة بتصريحات أميركية لا يشوبها الشك، تفصح بشكل سافر ان هذا الحال لن يتغير في الايقاع الفوضوي والاضطراب الأمني والسياسي، لكون هذا الاحتلال لن ينسحب عملياً، بل وحتى نظرياً، حيث ستبقى قوات أميركية كبيرة في قواعدها التي صممت وجهزت لاستخدامات طويلة الأجد، وفي هذا السياق ستبقى قوات المرتزقة والتي تعد بالآلاف المؤلفة هي الأخرى في مواقع عملها، مع ملاحظة في هذا الجانب تتعلق بعمل المرتزقة في المرحلة القادمة، والذي سينصب على النوعية ووفقاً لمتطلبات هذه المرحلة التي يفترض فيها أن الاحتلال قد أكمل انسحابه الرسمي، وان القوات المتبقية تنحصر مهامها بجوانب تدريبية واستشارية.
لذلك، لا يخفى على أحد ان الاستراتيجية الأميركية في حقبة ما بعد الانسحاب الشكلي من العراق، ستباشر عملها على منحى تجذير الاحتلال تحت مسمى (عمليات حفظ الاستقرار)، وهذا الأمر أقر به المتحدث باسم قوات الاحتلال الأميركي ستيفن لانزا في حديثه إلى صحيفة quot;نيويورك تايمزquot; عندما قال، عملياً لن يتغير شيء، وسيبقى في العراق 50 ألف جندي في 94 قاعدة، وحسب زعم لانزا، فإنّ هذه القوات تكون مهمتها (ارشاد الجيش العراقي وتدريبه وتوفير الأمن ومكافحة الإرهاب)، ومن الطبيعي أن وراء هذه المهمة تغطية لتفسير أميركي مفتوح، يعني ان هذه القوات ستعمل على تنفيذ كل شيء يريده الاحتلال.
والواضح ان أميركا ستعطي اشكالاً لهذا الاحتلال بما في ذلك خصخصته، من خلال وجود مائة ألف من المرتزقة، كما يعمل مع وزارة الخارجية الأميركية نحو ثلاثة آلاف من المرتزقة، وهي بصدد مضاعفتهم، حتى يكونوا جاهزين لاستلام مهمات على شكل وظائف في العراق، وهذه السياقات التي باشرت فيها واشنطن لم تعد خافية، وإنما قامت بالإعلان عنها المصادر الأميركية الرسمية، وهي ترمي من وراء ذلك إعادة تشكيل صورة الاحتلال الذي من المفترض قد أعلن انسحابه الرسمي في ذلك الوقت، وستكون السفارة الأميركية بمثابة مدينة أميركية، باعتبارها أكبر سفارة أميركية في العالم، كما ان حجمها الجغرافي يقارب حجم مدينة الفاتيكان، وإذا كان هناك شيء تستوجب الإشارة إليه في هذا الكتاب، هو أن ثلاثة شركات نفطية أميركية أبرمت عقوداً طويلة الأجل لاحتكار النفط العراقي الذي أصبح 60% منه في عهدة الشركات الأجنبية.
ولهذا، فإن الاحتلال الذي يكون قد تشكل في صورة أخرى، سيبقى ملتزماً بتبني العملية السياسية التي أبدت الجماعات المشاركة في العملية السياسية عن خشيتها من الانسحاب الأميركي، بذريعة التخوف من حصول انقلاب عسكري أو مجيء حاكم يجعل العملية السياسية رهناً لمشيئته، وهذه الخشية التي أبدتها هذه الجماعات، إنما تأتي من منطلق، أن هذه الجماعات أخذت تعترف بأن العملية السياسية السائدة، اصطنعها الاحتلال على مقاساتهم، وهو من هذا الاصطناع عمد الى تجذير وتجميل شكله في آن واحد، من خلال هذه العملية السياسية التي اصطنعها وتبناها الاحتلال مثلما أسلفنا، وهي في الوقت نفسه جعلت أتباعه وحلفاءه المحليين يهيمنون عليها، خدمة لمصلحتهم من جانب، ومن جانب آخر خدمة لمصلحة هذا الاحتلال.
إذاً، مستقبل العراق على النحو الآنف لن يكون مستقراً، وأن دوامة الفوضى والأمن المضطرب، ستستمر نحو الأسوأ، لا سيما وأن قطاعات واسعة من المجتمع العراقي ارتضت المشاركة في آليات العملية السياسية من منطلق طائفي، وهو واقع يصب في خدمة الاحتلال بأي شكل من أشكاله، بيد أنه في الوقت نفسه يؤدي الى استمرار ضياع العراق، بعدما أضاع الشعب البوصلة.