عصام نعمان

لبنان مجتمع متعدد، أو لعله مجتمعات متعددة . يعترض بعضهم فيقول إنه مجتمع تعددي وليس متعدداً . يجاريهم بعضهم الآخر فيقول إنه مجتمع متنوع، والتنوع نعمة وليس نقمة .

كل هذه التصنيفات ممكنة . ذلك أن كل شيء في لبنان، بسببٍ من تعدديته أو تنوعه، وجهة نظر . الأديان والعقائد والمذاهب والمشارب والمفاهيم والقيم والسياسات والواقعات وحتى الأرقام وجهة نظر .

لا ثوابت في لبنان بل متغيرات . كل شيء قابل للتغير والتغيير والتبدّل والتبديل، ldquo;ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرامrdquo; . وهذه الآية يتحفّظ عليها الملحدون واللادينيون .

كل شيء وجهة نظر. والنظر يكون من خلال منظار الطوائف والمذاهب والمشارب والنظريات والأيديولوجيات والتيارات والأحزاب والتنظيمات والتكتلات والتقليعات المحلية والوافدة .

لا إجماع في لبنان على شيء . وإذا حدث توافق فهو أمر طارئ واستثنائي ومؤقت ومحدود في الزمان والمكان . وإذا تشكّلت أكثرية حول شخص أو قضية أو ظاهرة سياسية أو اجتماعية، فالأكثرية تكون في الواقع مجموعة أقليات متنافرة حيناً أو متضافرة حيناً آخر، لكنها عصيّة على الاندماج .

باختصار، لبنان تائه دائماً في حال لزوجة وسيولة ذات قابلية عجائبية للتشكّل في مظاهر، ثم التفكك إلى قوالب متعددة، وكأنه متجه بلا هوادة من حال التعددية إلى حال الفسيفسائية .

في المقابل، يصعب الحديث عن وجود بديل متكامل وماثل من هذه الحال المستشرية والمتعمّقة التي يعيشها لبنان . ثمة مشروعات بدائل سياسية واجتماعية وثقافية، لكنها ما زالت في حال جنينية أو ذات فعالية محدودة . فوق ذلك، لا وجود لمشروعات تنسيق وتوليف وتوحيد جادة لبعض أو كل التيارات والتكتلات والتنظيمات ذات التحليل المشترك أو المتوافق لحال المجتمع المتعدد أو التعددي ولسبيل الخروج من الأزمة والارتقاء إلى حال أفضل . ربما تقتضي الإشارة إلى محاولة واحدة وحيدة في هذا المجال الحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي لكنها تبقى الاستثناء الذي يؤكد القاعدة .

إلى ذلك، تستمر حال التعدد والتفكك والتشرذم بالتناسل والتوالد . برز ذلك أخيراً في حركات الاحتجاج المتعاظمة على تقنين الكهرباء في بعض المناطق والمدن والبلدات والأحياء . الجديد البارز في هذه الاحتجاجات أن القائمين بها أشخاص أو مجموعات منبثقة من الأحزاب والتنظيمات والتكتلات المسيطرة سياسياً، من خلال مجلس النواب ومجالس البلديات، في هذه المناطق والمدن والبلدات . ومع ذلك، فإن لا رابط سياسياً أو تنظيمياً يجمع بين حركات الإحتجاج هذه في مختلف المناطق رغم أن سبب الأزمة واحد، النقص الفادح في توفير الكهرباء، ومصدر العلة واحد وهو الحكومة .

هل تتطور هذه الاحتجاجات إلى حصول تصدّعات في البنى الحزبية والتكتلات السياسية القائمة؟ هل تتلاقى الجماعات المنشقة في المناطق على برنامج واحد، وبالتالي على إطار مشترك للمعارضة أو للعمل والنضال؟ هل تبزغ في البلاد مجدداً حركة اجتماعية تستند في تركيبتها متعددة المكوّنات إلى العامل الطبقي حتى لو كان عريضاً ومتداخلاً مع عوامل أخرى، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية؟

أسئلة هي برسم الحاضر المأزوم والمستقبل المنظور .

غير أن ثمة دروساً يمكن استخلاصها من الأزمة المتفاقمة وتطوراتها المرتقبة، أبرزها ثلاثة :

الأول، انهيار النظام السياسي الطائفي الفاسد الذي بات يشكّل خطراً على الكيان الوطني، وبالتالي استحالة الرهان على الشبكة الحاكمة التي ما فتئت تتحكم وتستحلب ldquo;خيراتهrdquo; .

الثاني، ضرورة قيام إطار عمل مشترك، واحد على الأقل، بصيغة ائتلاف للقوى الوطنية الديمقراطية الحية النقيضة للنظام الطائفي الفاسد ولشبكته الحاكمة، يكون أدنى من جبهة (لعدم توافر شروطها وظروفها) وأعلى من مجرد لقاء سياسي عابر، على أن يكون بأهدافه وبرامجه المرحلية وسلوكيته الكفاحية مقاومةً مدنية متوثبة للنظام القائم من أجل بناء دولة مدنية ديمقراطية على أسس الحرية وحكم القانون والمساواة والعدالة والتنمية، وتكون في آن رديفاً سياسياً للمقاومة الميدانية الناشطة ضد العدو ldquo;الإسرائيليrdquo; .

الثالث، وجوب استفادة الأطار المطلوب للعمل المشترك، بقادته وكوادره وناشطيه، من التجارب السياسية الماضية في ميدان العمل الجبهوي بغية استيلاد منهجية وآليات جديدة ومتجددة في العمل العام قوامها استخلاص وبناء وتفعيل مشترَكات للاجتماع السياسي اللبناني . هذه المشترَكات يُفترض أن تكون نابعة من عوامل التلاقي وناهضة إلى محاصرة ظواهر التجافي بين اللبنانيين، وهادفة إلى سدّ حاجاتهم المادية والمعيشية، وملتزمة تعزيز طموحاتهم السياسية والحضارية بالاتساق مع إخوتهم في الانتماء القومي والترقّي الإنساني .

إن مفردات المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بلبنان واللبنانيين في هذه الآونة توفّر، بحد ذاتها، فرصاً واسعة للتفكير والتدبير على صعيد إيجاد المشترَكات المشار إليها وتفعيلها وتعميمها من خلال إطار عمل مشترك للخروج من حال الانقسام والتشرذم والضائقة المعيشية والفساد المستشري والادقاع الاخلاقي والفقر المادي .

إن ازمة الكهرباء ومشكلة الدين العام توفران فرصتين محفّزتين لمباشرة الجهد المطلوب من أجل استخلاص وبناء وتفعيل مشترَكات في حياتنا العامة . فأزمة الكهرباء عمرها أكثر من 20 عاماً، وقد بلغت تحويلات الحكومات المتعاقبة لمؤسسة كهرباء لبنان، حسب محاضرة العالم والخبير الاقتصادي الدكتور توفيق كسبار (في الحلقة الدراسية حول ldquo;الدين غير المشروعrdquo; - جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي ldquo;أونورrdquo;)، ما يزيد على 20 مليار/ بليون دولار أمريكي من دون أن تلوح في نهاية نفق الإهدار بارقة ضوء . ألا تشكّل أزمة الكهرباء همّاً مشتركاً للطبقات الشعبية والقوى الوطنية الحية في طول البلاد وعرضها؟ ألا تشكّل حافزاً لبناء مشترَك اجتماعي فاعل بين اللبنانيين في مواجهة النظام السياسي الفاسد وشبكته الحاكمة؟

الدين العام بَلَغ، حسب الدكتور كسبار، في نهاية العام 2009 نحو 52 مليار/ بليون دولار أمريكي ما يجعل لبنان من أكثر دول العالم استدانة . وليس أدل على أن للفساد دوراً بارزاً في تضخمه أن المبالغ المصروفة على دعم سعر الليرة اللبنانية ناهزت العشرة مليارات/ بلايين دولار أمريكي . ألا تشكّل مشكلة الدين العام المتفاقم همّاً مشتركاً للقوى الوطنية الحية والطبقات الشعبية المعانية؟ ألا تشكّل حافزاً لإطلاق جهد علمي وسياسي مشترك بين القوى المتضررة من النظام السياسي الفاسد وشبكته الحاكمة؟

ثمة أزمات وتحديات بحاجة إلى قوى حية ملتزمة وقادة أفذاذ بروحية أبطال، وإلى جهود وتضحيات مشتركة جبارة .

آن أوان القول والفعل التاريخيين .