محمد سلمان العبودي
العراقيون اليوم وهم يتابعون على شاشات التلفاز رحيل آخر كتيبة قتالية أميركية من العراق، يستعيدون أغنية المطرب العراقي الراحل ناظم الغزالي: (راجعة من بيت أبوها.....).
في الواقع، هناك اليوم من ينتحب على العراق وهناك من يحتار من أمره. فالعراق أصبح في موقف لا يحسده عليه حتى فلسطينيو غزة. فهم واقعون بين أمرين أحلاهما مر. فانسحاب آخر كتيبة قتالية أميركية من العراق يعتبره البعض بداية الخروج من النفق المظلم الذي بدأ مع اجتياح الكويت، في حين يرى آخرون أن هذا الانسحاب ما هو إلا بداية الدخول في النفق الأكثر ظلمة في تاريخ العراق.
ولكن هناك دائما موقف وسط، وليس كما قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، ان عدم الاختيار هو اختيار في حد ذاته، وهذا الموقف يتوقف على إرادة الشعب العراقي نفسه.
إن التهليل للانسحاب الأميركي يجب أن يرى بعين من يهلل له. فهناك جماعات تنتظر هذه المغادرة منذ لحظة الوصول. أي منذ قرابة السبع سنوات ونصف. ومن يهلل له يعتمد من جهة أخرى وبالدرجة الأولى على من يهلل له.
فالمقاومة العراقية تهلل له لأنها كانت تنتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر لتعمل سيفها بكل ما أوتيت من قوة في رقاب العراقيين المتعاونين مع المحتلين الصليبيين كيفما يحلو لها. حتى ولو أدى ذلك إلى أن يسقط مضرجا بدمه من هو أصلا ضد الاحتلال. ف(لكي تعمل عجة لا بد من أن تكسر بيضا)، كما يقول المثل الفرنسي.
أما المهلل الثاني فهو العراقي البسيط الذي ذاق الأمرين من الوجود الأميركي؛ فهو واقع تحت الاحتلال، وهو محتل، وبلده محتل، ويقارن نفسه في كل صباح بشعوب أخرى في العالم قريبة منه تصحو على حريتها وكرامتها وعزتها كاملة وتنظر إليه على أنه مهان ومستذل ومستباح ويتحمل العار والدمار على مدى سبع سنين ونصف، وهو الذي تربى على عقيدة الحرية والكرامة والعزة والتاريخ الضارب في القدم.
أما المغتمون من الرحيل الأميركي، فحدث ولا حرج، وإن سألت عمن هم، قيل لك كما قال الشاعر العربي أبو فراس الحمداني قبل ألف سنة: (أيهم؟ فهم كثر!)، فمنهم المستفيد تجاريا؛ فوجود هذا الكم الهائل من الجنود والمجندين والمتعاقدين الأمنيين الأميركيين يشكل سوقا تجارية رابحة على مدى سبع سنوات ونصف السنة.
خاصة وأن هؤلاء الجنود يدفعون نقدا بالعملة الصعبة. وأما الباعة العراقيون فلا يعلمون أو يعلمون ويغضون الطرف بان هذا الدولار مطبوع بدم العراقيين. وعودة عشرات الآلاف منهم إلى مواطنهم تعني خسائر جمة لا تحصى. ويجدر بالذكر بأن هناك من يستفيد حتى من بيع مسامير التوابيت التي تضم رفات الجنود الأميركيين الذين يقتلون يوميا في شتى أنحاء العراق.
أما النائحون الآخرون فهم الخائفون على حياتهم وأمنهم وممتلكاتهم. فالجيش الأميركي كان يوفر لهم غطاء لا يستهان به من الأمن الداخلي والخارجي النفسي والمادي. وهناك من الأهالي (وهم قلة) ممن ارتبطوا مع مرور الوقت بعلاقات صداقة حميمة مع بعض الجنود الأميركيين. فأصبح من الصعب مشاهدتهم وهم يحزمون حقائبهم ويرحلون دون رجعة.
لكن في النهاية، يجب ألا نهلل ولا نلطم على الخروج الأميركي من العراق. فهذا الخروج لم يكن كما توهم البعض قرارا مفاجئا. فهناك اتفاقية عراقية أميركية مسبقة وقعت عام 2008 بين الطرفين بخصوص السيادة العراقية أطلق عليها (سوفا).
وحيث ان دخول العراق ليس كالخروج منه، فمن الصعب أن تخرج الولايات المتحدة من دولة بحجم وغنى العراق بهذه السهولة قبل أن تؤمن مصالحها الاستراتيجية والنفطية أولا وأخيرا.
ورغم الخسائر البشرية والمادية التي منيت بها الولايات المتحدة في غزو واحتلال العراق والتي تعد الأكبر بعد حرب فيتنام، حيث بلغ عدد القتلى من الجنود الأميركان 4419 قتيلا وكلفتها الحرب ما يقارب من ال700 مليار دولار.
ورغم ما يمثله هذا الرقم من ضغوط شديدة على الخزينة الأميركية في ظل الظروف الاقتصادية السيئة التي يمر بها العالم، وانعكاس وجودها العسكري الهائل في العراق سلبا على تواجدها في أماكن أخرى في المنطقة.
إلا أن العراق يمثل (ما بين ال135 قاعدة عسكرية أميركية في شتى أنحاء العالم) بقعة استثمار وهيمنة استراتيجية لا يمكن تركها لقمة سائغة في فم أعدائها الاقتصاديين بدءا من روسيا إلى فرنسا إلى بريطانيا إلى إيران.
فهناك 000 .56 جندي أميركي سيظلون في العراق بحجة تدريب وتأهيل الجيش العراقي، إضافة إلى الـ000 .80 جندي من المرتزقة أو ما يطلق عليهم استحياء (متعاقدين أمنيين).
ويجب ألا يفرح العراقيون بهذا الانسحاب، لأن خروج أميركا من العراق نهائيا ودون ضوابط وفي ظل الأوضاع الأمنية الراهنة يعني تحول العراق إلى ساحة اقتتال طائفي وسياسي وعرقي وثأري لم تشهده المنطقة منذ خروج العثمانيين منها.
والمؤشر بدأ تماما مع الإعلان عن الانسحاب إيذانا ببداية كربلاء القرن الحادي والعشرين، حيث وقعت عملية انتحارية نوعية هزت بغداد وراح ضحيتها المئات ما بين قتيل وجريح.
وإذا ما أضفنا تصريح رئيس الأركان العراقي بابكر زيباري الذي أكد أن الجيش الجديد الذي يقوده لن يكون جاهزا لأداء مهامه قبل عام 2020، سنعلم إلى أي مدى سينفلت زمام الأمور في حال خلت الساحة من سجانها.
فهل يا ترى نفرح أم نبكي على هذا الانسحاب؟
التعليقات