محمد بن عيسى الكنعان

الكتابة الفكرية صحافية كانت أو أدبية أو علمية، هي عملية ذهنية تتركز في ترجمة القناعات العقلية والتصورات الشخصية إلى (أفكار وآراء ومقترحات) ترتبط بالواقع المعاش مع استرجاع إيجابيات الماضي ومحاولة استشراف

طريق المستقبل لحياة أفضل، وقد تبدو تلك الأفكار والآراء والمقترحات متباينة وربما مختلفة مع الفكر السائد بحكم اعتبارات دينية يؤمن بها الكاتب، أو بفعل مؤثرات اجتماعية أو خلفيات ثقافية خضع لها، أو وفق توجهات فكرية وفلسفية تحكم وعيه . إلا أن القصور البشري لدى الكاتب عن بلوغ أو تحقيق الكمال الكوني، يجعل هذه الكتابة مُعرضة للأخطاء المتعددة والمتنوعة، سواءً في المبنى أو المعنى أو المغزى، الأمر الذي يجعل القارئ للنص أو المتلقي للفكرة أو الرأي - بل المجتمع ككل - يلتمس العذر للكاتب (المنتج للنص) مهما كانت توجهه الفكري أو مستواه الثقافي، لأن الفيصل هنا (حسن النية) من باب فضيلة حسن الظن بالناس.

لكن العذر يتجاوز ذلك الكاتب الذي يُنتج نصوصاً متعفنة بفكر معين، أو يمارس كتابة ملتوية بكلمات مبهمة، والأخطر عندما يمارس (تدليساً فكرياً) تحت دعوى تنوير المجتمع، أو تثقيف الجماهير، أو التجديد في فهم الناس للدين بما يتفق مع الحياة المعاصرة.

والتدليس الفكري هو اختلاط ظلام الفكر بنور الحق، من خلال كتم الحقيقة والغش في المعلومة، ومن يتمعن بشكل كبير في بعض الكتابات الصحافية التي تتناول مواضيع دينية أو دنيوية، من زاوية فكرية أو حذلقة فلسفية يلحظ ذلك بجلاء، فهي تبدو على مسارين، مسار (المصطلحات الفكرية) ذات البعد الفلسفي والخلفية التاريخية الغربية، والآخر (المفاهيم الاجتماعية) ذات الارتباط الوثيق بالموقف الديني والتطور الاجتماعي، فتجد من يستمتع في الحديث المكرر عن (التنوير) حسب المفهوم الغربي، وعندما تناقشه في خطورة أبعاد هذا المصطلح الغربي الذي يروج له، كونه يتصادم مع المرجعية الإسلامية ب(إعلاء شأن العقل والقطيعة مع الدين) يلتف إلى أنه يقصد (التجديد) في منهاج الإسلام ليتواكب مع روح العصر بما يخص المعاملات وليس العبادات.

والحال ينسحب على من يُصّر على التفريق بين (العلمانية والليبرالية)، من حيث علاقتهما بالدين وموقفهما الفعلي من الإسلام رغم أن الأولى ركيزة رئيسة في الأخرى، أو من يدعو إلى (تقنين الشريعة) ليس لأجل تحديد الأحكام والقوانين المستمدة من نصوص الشريعة في إطار منظم، إنما إدخال قوانين وضعية على الشريعة قد تتصادم مع أحكامها الثابتة.

كما أن من صور التدليس الفكري الواضحة ما يتردد لدى كتاب (التبعية الغربية) بالدعوة الصريحة إلى إعادة فهم النص الديني أو ما تسمى (القراءة الدينية وفق مقتضيات العصر) بحجة اختلاف عصرنا عن عصور من تركوا لنا هذا التراث الفقهي العظيم، فتظن أن الغاية نبيلة والوسيلة سامية، فتكتشف لاحقاً أن من يدعو لذلك لا يفرق بين المناهج الفكرية في دراسة النص الديني، بل ربما تجده تلميذاً مطيعاً وعقلاً طرياً على مائدة ملاحدة الفكر الماركسي وأدعياء الفلسفة المادية، وهذه المسألة تماثل إلى حدٍ ما الدعوة إلى (تدريس الفلسفة) التي يعلنها بعض كتابنا، فرغم حسن الظن بمن يقف وراء هذه الدعوة لهدف تعزيز جانب التحرر العقلي لدى الناشئة لإطلاق ملكاتهم الفكرية نحو الإبداع والتفوق، إلا أن هناك من يريد زرع منهج الشك من خلال الفلسفة في عقول أبنائنا بكل صور التعامل مع المسلمات الدينية والثوابت العقائدية والأحكام الشرعية، لأن هذا البعض لا يأخذ من حضارة الآخر إلا سلبياتها.

أما التدليس الفكري في مسار (المفاهيم الاجتماعية) فصوره عديدة في مشهدنا الاجتماعي المحلي، ولعل أبرز قضية جدلية حاضرة تعكس ذلك التدليس، هي مسألة (الاختلاط)، فتجد من تتمحور كتاباته حول مفهوم هذه المسألة في تدليس واضح بين تطبيقات هذا المفهوم الاجتماعي وكأنها حالة واحدة وبين مقصده الحقيقي، فيتحدث عن الاختلاط بالعمل والتعليم قاصداً (الأماكن المغلقة)، بينما في التحاور يشير إلى (الأماكن المفتوحة) التي يتحقق فيها الاختلاط العارض أو (التجمعات البشرية) التي يقع فيها الاختلاط غالباً بشكل طبيعي وعفوي كالمطارات والمستشفيات والأسواق وما هو في حكمها.

لأن ذلك الكاتب لا يملك الشجاعة الفكرية لمواجهة مجتمعه بقناعاته التي هي في حقيقتها انقياد أعمى لأفكار غيره، فيعمد إلى التدليس الفكري، وقس على ذلك كثير من المفاهيم الاجتماعية.