محمد سلمان العبودي



ماذا الوداع وداع الوامق الكمدِ

هذا الوداع وداع الروح للجسدِ

بهذا البيت، وهو بيت المتنبي استهل غازي القصيبي (1940م ـ 2010م) أول فصول أحداث روايته الشهيرة (شقة الحرية ؟ صدرت عام 1994). والغريب في الأمر أن غازي رحمه الله تعالى ظل يقتبس فقط أبيات المتنبي ليستهل به كل فصل من فصول روايته المكونة من 21 فصلا.

ولا نستبعد أن لغازي حاجة في نفسه غير معلنة في اقتباس المتنبي. فكلاهما قضى حياته مسافرا، وسفيرا، وملازما لكبار الرجال من حكام وساسة عصره ولكنه قبل كل شيء ثائرا.

وكلاهما ودع الدنيا تاركا خلفه عملا أدبيا بديعا رائعا، وأقلاما كتبت وتكتب وستكتب عنهما الكثير الكثير. ونادرا ما يرحل في زمننا أديب أو فنان أو حتى رئيس دولة فترثيه الأقلام بهذه الكثرة وبهذا الصدق وبهذا الحزن.

ومنذ أن ودع غازي هذه الدنيا قبل أسبوعين تقريبا والأقلام لم تتوقف عن رثائه. ونحن هنا لسنا لنرثيه، ولكن لنرثي أنفسنا. لأنه أراد لنا ذلك.

نرثي أنفسنا لأننا نعيش في زمن وفي بقعة من الأرض لم يعد للعالم ولا للأديب ولا للمخترع أدنى قيمة تذكر.

وكانت نفس هذه البقعة من الأرض قبل قرون مضت مركزا حضاريا مشعا في كل أرجاء الدنيا وتعج بالأدباء والعلماء والمفكرين والفلاسفة والمهندسين التي تنتجهم أو يأتوا إليها طلبا للاستزادة. وكانت لكل واحد منهم قيمته الاجتماعية والأدبية ومكانته التي تضمنها له الأنظمة ويحميها حاكمها.

واليوم يولد أديب على حساب أبيه ولا يجد ما يغطي عورته ويموت أديب على مديونيته ولا يجد من يتكفل بكفنه، ولا أحد يسأل عن مولده ولا عن مماته وما بينهما. وحيث أن الأرض العربية ينبت فيها الشعراء والأدباء كما ينبت العشب، فلا عجب أن يولدوا ويموتوا دون أن يشعر بهم أحد.

غير أن هذه الكثرة المفرطة في تفريخ الأدباء لا تلغي الاهتمام بأجود ما تنتجه لنا منهم. لكن ما هو حادث اليوم يبدو مغايرا، فلا يعرف من الشعراء إلا الأغنياء والأثرياء ممن لهم القدرة على نشر أعمالهم حتى ولو لم تكن صالحة للنشر ولا تحمل جديدا.

في حين يوجد بين المغلوب على أمرهم والمغمورين من الكتاب والأدباء من يمكن أن يرقوا ويصنفوا من بين كبار الكتاب العالميين غير أنه لا يعلم عنهم أحد. فأين القائمون على الحراك الثقافي والمدفوعون الأجر لهذا الغرض؟ وما دورهم بعد قص شريط المعارض الفنية؟

العقبة الأخرى في العالم الأدبي العربي هو تدخل الرقابة العليا في كل جزئية صغرت أم كبرت. صحيح أن هناك أقلاما رخيصة مؤجرة غرضها الهدم وليس البناء ويجب وقفها، ولكن هناك في المقابل ـ وهي قليلة وتعد على أصابع اليد ـ الأقلام التي نذرت نفسها لحرق أصابعها لتسليط الضوء على الأوضاع الخاطئة والخروج من النفق المظلم الذي تمر فيه الأمة العربية والإسلامية منذ زمن طويل.

غير أن هذه الأخيرة، حتى ولو نجحت في التسلل من بين فتحات هذه الأسلاك الشائكة، فإن مصيرها هو المطاردة والملاحقة والحظر على كتبها. لذا تلجأ كثير من الأقلام الثائرة إلى نشر أعمالها في لندن وبيروت وقبرص.

بالرغم من ذلك، ستظل تدخل سرا ومخبأة بين الألبسة الداخلية في حقيبة المسافر. فكيف يجوز لنا ونحن في القرن الواحد والعشرين أن نتداول الكتب كما يتداول المدمنون أقراص الأفيون سرا فيما بينهم؟

إن الكتابة يجب أن لا تصادر، والكتاب يجب أن لا يرجم والقلم أن لا يراق حبره. فالحضارة العربية لم تقم ولم تنتشر في يوم من الأيام على سن الرمح ولكن على سن القلم. فلماذا كان أجدادنا أكثر تفتحا في الفكر منا؟ وأكثر تحضرا منا؟ وأكثر ديمقراطية منا؟ ومتى سنرجع للخلف إلى زمنهم؟

أخبرني أحدهم وهو أستاذ جامعي عربي ويحمل دكتوراه في الفلسفة وقارئ نهم غطى جدران منزله بالكتب والمؤلفات، بأنه شرع في كتابة روايته الأولى الخاصة به قبل 3 سنوات، ولكي يستطيع طباعتها ونشرها في بلده على حسابه الخاص كان لا بد من مرورها أولا بإدارة الرقابة في بلده. وجاءه الرد بالرفض بعد شهرين من الانتظار.

واكتشف بعد مراجعة الإدارة المختصة وبعد التقصي والتحري بأن من راجع روايته لا يحمل إلا الشهادة الثانوية العامة! فكيف يحكم على عمل أستاذ جامعي طالب من خريجي الثانوية العامة؟

المسألة لها أبعاد كثيرة وخطيرة خاصة على أجيال المستقبل، وتظهر مدى التخلف الثقافي والفكري الذي يتخبط فيه العالم العربي الذي ما زال يدعي بأنه تحرر من الاستعمار.

هل لا بد من التذكير بمقولة المهاتما غاندي الذي تجرأ بأن يفتح الأبواب والنوافذ لكل الرياح لكن دون أن يسمح لها بأن تقتلعه من جذوره؟ ترى كيف نربي أبناءنا على هذا النهج؟ هذا باختصار ما كان يريد أن يوصله لنا غازي القصيبي: فتح بعض الفوهات الصغيرة في جدار التخلف العربي العظيم.

كانت هذه واحدة من محاولات الأديب والسفير والدبلوماسي والوزير غازي القصيبي رحمة الله عليه. ولم ينج من الخناجر التي دست في ظهره. وتحمل آلامها المبرحة بدبلوماسية السفير وحلم الأديب وصبر الوزير. ثم مات غريبا عن وطنه.

أليس هو القائل:

أيها القوم نحن متنا فيها

نستمع ما يقول فينا الرثاء

وهو القائل:

بنيت صرحا من الأوهام أسكنه

فكان قبرا نتاج الوهم، لا سكنا

وهو القائل وهو القائل وهو القائل.... إلخ، كما قال المتنبي قبل أكثر من ألف سنة:

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكن أمانيا