ميرزا الخويلدي


أخيرا، آن للشاعر والوزير الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، أن ينام ملء جفونه عن شواردها، تاركا الخلق يسهر جراها ويختصم.
أسلم الأديب والوزير السعودي العريق الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي صباح أمس الأحد الروح إلى بارئها، بعد رحلة طويلة بين الشعر، والإدارة، والوزارة، تاركا بصمة قوية في كل مفصل من مفاصل العمل الذي تقلده.

يوم أمس كان القصيبي في موعد مع الموت، الذي ظل يتربص به منذ أكثر من سنة، ناشبا مخالبه في جسد أنهكته مرارات السنين. وتوفي الدكتور غازي القصيبي في مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض، في الساعة العاشرة صباح أمس.

ولد القصيبي في الهفوف شرق السعودية في 2 مارس (آذار) 1940، وبعد ولادته بتسعة أشهر توفيت والدته الشابة التي لم تكمل 28 عاما، فتربى في كنف جدته لأمه. وفي طفولته انتقل من الأحساء إلى البحرين، وهناك تلقى دراسته الأولى، ثم سافر إلى القاهرة ليحصل على شهادة الليسانس في الحقوق من جامعة القاهرة. سافر بعدها إلى الولايات المتحدة ليحصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا. وحصل بعد ذلك على الدكتوراه من جامعة لندن.

وتأثر بجدته (سعاد) التي أيقظت داخله حب الأدب. يقول عنها مخاطبا نفسه: laquo;كانت تقرأ القرآن، وكانت تقرأ الروايات والقصص، ومنها سمعتَ عن (حمزة البهلوان)، و(سيف بن ذي يزن)، و(الأميرة ذات الهمة)، و(تغريبة بني هلال الكبرى)، وهي التي علمتك كيف تكتب اسمك قبل أن تدخل المدرسة، وكانت تقرأ لك الكتب، ثم أصبحت تقرأ لها الكتب، ولا شك أنك أخذت منها الكثير، غير الجينات. هي التي حببت إليك القراءة، وأدخلتك عالم الروايات، وهي التي أعطتك دروسا في التسامح، ولا شك أنك دون أن تشعر تشربت شيئا من قلقها وتوجسها، حتى عندما كبر أولادك وأصبح لهم أولاد، تظل فريسة المخاوفraquo;.

ولج القصيبي الحياة العامة مبكرا، منذ أن كان أستاذا في كلية التجارة بجامعة الرياض (الملك سعود) عام 1965. ثم انتقل عام 1971 لوزارة الدفاع للعمل كمستشار قانوني. لكن عالم الإدارة انفتح على مصراعيه مع توليه إدارة المؤسسة العامة للسكك الحديدية عام 1973. وفي الوزارة تقلد أول منصب عام 1976 حيث عين وزيرا للصناعة والكهرباء، حتى تعيينه وزيرا للصحة عام 1982. وفي السفارة عين أولا سفيرا لبلاده في البحرين عام 1984، ثم في بريطانيا عام 1992. وفي عام 2003 تم تعيينه وزيرا للمياه، وحتى تسلمه وزارة العمل عام 2006 حتى رحيله أمس.

وخلال مسيرته من الوزارة إلى السفارة، فالعودة إلى الوزارة مجددا، استمر القصيبي يمزج الشعر بالإبداع، ويخلط بين الكلمة والموقف، اتسم القصيبي بالشجاعة والجرأة والبسالة في التعبير عن رأيه، وفي رسم صورة عملية تشبه ملامحه كباحث عن النجاح، وساعٍ لكسر الرتابة والجمود. ولم يكن القصيبي يبحث عن الهدوء، ولا يركن إلى السكينة، وليس في أجندته الصمت. وفي كل مراحله كسب من الأعداء والخصوم بمقدار ما أضاف لسجله من المحبين والمعجبين.

وحين سألته laquo;الشرق الأوسطraquo; خلال حوار: أي الوظائف كان الأقرب إلى نفسك، الوزارة، أم السفارة؟ والكهرباء والصحة، أم المياه والعمل؟ قال الوزير الشاعر: صدقني! لا توجد وظيفة قريبة إلى القلب، صدقني!! كل وظيفة تعني صحوا مبكرا ونوما متأخرا ومواعيد مزعجة وزوارا ثقلاء ومصالح ترتدي ثوب النزاهة وأوراقا مبعثرة وطعنات من كل اتجاه - لا أستثني من ذلك أي وظيفة مررت بها أو مرت بي. القريب من القلب هو الشعور أنك استطعت رغم هذا كله، لا بسبب هذا كله، أن ترسم ابتسامة على وجه، أن تخفف من معاناة إنسان، أن تجعل الحياة أخف وطأة على مخلوق - هذا، وحده ما يبقى، والباقي قبض الريح! ينظر إلى القصيبي كصانع للنجاح، لكنه يقول لـlaquo;الشرق الأوسطraquo; إن نجاحه الأول كان في صراع مع النفس، يقول laquo;نجاحي الأول - والوحيد - أني استطعت عبر جهود مضنية استغرقت عقودا منه الزمن أن أتغلب، إلى حد ما، على ما في داخلي من مخزون الخجل وعقد الانطواء وضعف الثقة بالنفس والخوف من الجموع وعشق العزلة..raquo;.

وكان القصيبي يجد في الشعر، والأدب ضالته، وكان من الصعب التمييز بين شخصية القصيبي الرسمية، وشخصيته الأدبية، لكنه يجد في شخصية الشاعر قوة وعنفوانا لا يجدها في شخصية الوزير الذي يتعين عليه الالتزام بقيود وحدود العمل، قال ذات مرة لـlaquo;الشرق الأوسطraquo;: laquo;الوزير بدوره لا يصارع طواحين الهواء - كل الطواحين التي يصارعها مدججة بالأسلحة الفتاكة ومحصنة ضد القرارات الوزارية ومدرعة بحيث لا تستطيع المصلحة العامة إحداث خدش بها. كم أتمنى أن تكون لي معركة واحدة، واحدة فقط، مع طاحونة هواء أعود منها بلا أضلاع مكسورة، أو قلب ينزف، أو قلم يرتعشraquo;.

لكن الشاعر، فيقول عنه القصيبي laquo;الشاعر لا يصارع طواحين الهواء ولكنه يصنعها ويشغل بها نفسه، ويشغل بها الناسraquo;.

وعلى الرغم من أن غازي القصيبي ولد لعائلة ثرية، فإنه كان على موعد مع الحزن والحرمان منذ نعومة أظافره، ففي شهره التاسع فقد والدته التي رحلت عن الدنيا وهي لا تزال شابة لم تكمل الثامنة والعشرين من عمرها، وظل يكابد مرارة الفراق، التي كتب عنها في laquo;المواسمraquo; مخاطبا نفسه: laquo;وبعد ميلادك بأقل من سنة، توفيت أمك في الثامنة والعشرين، بالتيوفئيد، في الأحساء التي لم تكن أمك تحبها ولم تكن أمها تحبها، وفي السنة نفسها مات جدك. فقدت ستك (سعاد) زوجها وابنتها الوحيدة في سنة واحدة. موسم الموتraquo;.

يفضل القصيبي رسم الصورة بالكلمات، وهو يلون بالحزن سيرته الأولى، يقول laquo;الذين عرفوا (سعاد) في تلك الفترة يزعمون أن شعرها ابيض كله فجأة، خلال أيام، وأنت لا تصدق ولا تكذب، وبعد وفاة أمك نسيت ستك سعاد موطنها الأصلي، نسيت ضيقها بالأحساء، نسيت معاناتها مع الشروق، وقررت أن تكرس بقيت عمرها للعناية بأولاد ابنتها الراحلة الغالية، وكان أصغرهم بطبيعة الحال أجدرهم بالعناية، ونشأتَ لا تعرف أما سوى (ستي) التي تشفق كما تشفق الأم، وربما أكثر، وتحنو كما تحنو الأم وربما أكثر، وتدافع عن الولد اليتيم ظالما أو مظلوماraquo;.

وعلى الرغم من أن القصيبي الذي ظل يعاكس الريح، ويصارع الطواحين، خرج من آخر معاركه منكسرا، خاصة وهو يعتقد أنها معركة توفير لقمة العيش وحق العمل للشباب، حين سألناه ذات مرة: هل فاجأك موقف رجال الأعمال من خططك لتوطين الوظائف؟، يقول: laquo;كان بوسعي توقع ردود الفعل من كل من تضررت مصالحه، على نحو أو آخر، ويبدو أنه من قدري أن أضر بمصالح البعض في كل عمل أتولاه، وكان بوسعي توقعها بدقة نشأت من الخبرة المتراكمة، أما الذي لم أستطع أن أتوقعه ولا أستطيع الآن وقد لا أستطيع في المستقبل، هو موجات الكراهية تأتيك من أناس لم تمس مصالحهم من قريب أو بعيد ولم يروك ولم ترهم).

* مؤلفات

* مؤلفاته في الرواية: laquo;شقة الحريةraquo;، وlaquo;سبعةraquo;، وlaquo;العصفوريةraquo;، وlaquo;سعادة السفيرraquo;، وlaquo;دنسكوraquo;، وlaquo;رجل جاء وذهبraquo;، وlaquo;حكاية حبraquo;، وlaquo;سلمىraquo;، وlaquo;هماraquo;، وlaquo;العودة سائحا إلى كاليفورنياraquo;، وlaquo;الجنيةraquo;.

وفي الشعر: laquo;صوت من الخليجraquo;، وlaquo;الأشجraquo;، وlaquo;اللون عن الأورادraquo;، وlaquo;أشعار من جزائر اللؤلؤraquo;، وlaquo;سحيمraquo;، وlaquo;للشهداءraquo;، وlaquo;سلمىraquo;، وlaquo;يا فدى ناظريكraquo;، وlaquo;قراءة في وجه لندنraquo;، وlaquo;معركة بلا رايةraquo;، وlaquo;حديقة الغروبraquo;.

وفي الفكر والسيرة الذاتية: laquo;التنمية: الأسئلة الكبرىraquo;، وlaquo;الغزو الثقافيraquo;، وlaquo;أميركا والسعوديةraquo;، وlaquo;ثورة في السنة النبويةraquo;، وlaquo;حياة في الإدارةraquo;، وlaquo;المواسمraquo;، وlaquo;الأسطورةraquo;، وlaquo;استراحة الخميسraquo; وlaquo;هيraquo;، وlaquo;العولمة والهوية الوطنيةraquo;، وlaquo;الخليج يتحدث شعرا ونثراraquo;، وlaquo;مع ناجي.. ومعهاraquo;، وlaquo;صوت من الخليجraquo;، وlaquo;عن قبيلتي أحدثكمraquo;.

كما صدر له مؤخرا: laquo;الوزير المفاوضraquo;، وlaquo;الزهايمرraquo;.