جورج سمعان


وفى الرئيس باراك أوباما ما وعد به الناخبين قبل نحو سنتين. أعلن انسحاب أكثر من تسعين ألف جندي من العراق في laquo;خطوة كبيرة لإنهاء الحربraquo;. قدم laquo;إنجازهraquo; هذا إلى ناخبيه مجدداً على أبواب الانتخابات النصفية للكونغرس، وبعد مضي نصف ولايته التي لم يعد بعيداً بدء الحملة لتجديدها ولاية ثانية. لم يتحدث عن مستقبل العراق، كما لم يتحدث عن العلاقة المستقبلية بهذا البلد. لم يشر إلى ما حققته الحرب أو ما لم تحققه. لم يعرض الصعوبات التي تعترض العراقيين في إدارة بلادهم، في السياسة والأمن.

من المبكر تقديم تقويم نهائي لنتائج الحرب على العراق. لذلك ليس أسهل من القول اليوم، بعد مضي سبع سنين على بداية هذه الحرب إن الولايات المتحدة منيت بهزيمة سوى القول إنها انتصرت وحققت أهدافها، أو سوى القول مثلاً إن إيران كسبت وستكون صاحبة الكلمة الفصل والتأثير الكبير في هذا البلد، ولن يعود لواشنطن وجيران بغداد الآخرين - وما أكثرهم - التأثير الفاعل. من المبكر تقديم تقويم نهائي أولاً لأن الانسحاب ليس شاملاً قبل نهاية العام المقبل. وثانياً لأن قيادات عراقية سياسية وأمنية تعتقد بوجوب بقاء الوجود الأميركي سنوات. حتى إيران حذّرت العراقيين من أن الانسحاب الحالي وهمي وأن القوات الأميركية باقية تحت مسميات أخرى من عناصر الشركات الأمنية الخاصة أو غيرها. كأنها لا تريد التعامل مع حقيقة الانسحاب الذي يفرض عليها إعادة النظر في مواقفها وخطابها.

وبعيداً من الذرائع التي ساقتها الولايات المتحدة ومعها بريطانيا لشرعنة الحرب، حملت هذه أهدافاً وعناوين عدة. جاءت في سياق ما سمي الحروب الاستباقية. أي نقل المعركة على laquo;الإرهابraquo; خارج أميركا وأوروبا. والواقع أن مقاتلي laquo;القاعدةraquo; تدفقوا إلى العراق حيث أقاموا laquo;إمارتهمraquo;... وتجدد نشاطهم في الأسبوعين الماضيين بعدما تلقوا ضربات قاسية في السنوات الثلاث الماضية. ويخشى العراقيون مجدداً أن يعودوا إلى سابق زخمهم في ظل التعثر السياسي، ما قد يعيد شبح الحرب الأهلية إلى الأبواب.

وجاءت الحرب أيضاً كأنها المعركة الأخيرة في سياق حرب تحرير الكويت التي قادها الرئيس جورج بوش الأب، ولم يكملها بعد خروج الجيش العراقي من الكويت... فأكمل المهمة بـوش الابن بعد نحو عقد من الزمن. قيل الكثير في أسباب اجتياح صدام. لكن المفيد هنا التذكير بأن ما دفع الولايات المتحدة إلى تجييش أكبر حملة عسكرية بدعم دولي واسع وعربي وازن، هو أولاً منع صدام من الاندفاع بعيداً وتنصيب نفسه سيداً على الخليج، أي سيد حقول النفط وممراته! وهو السبب نفـسه الذي سـيـق لشرح الأسباب الحقيقة من وراء احتلال العراق في 2003، أي بناء laquo;قـاعـدةraquo; أمـيـركـية تُـضاف إلـى عشرات القواعد المنتشرة في الخليج لحماية هذا الشريان الحيوي للدول الصناعية، والذي يوفر وجوده تحت حماية القوات الأميركية ورقة في يد واشنطن لمواجهة القوى الصاعدة التي تحتاج إلى هذا الشريان، من أوروبا إلى اليابان مروراً بالهند فالصين.

لذلك ليس سهلاً التصديق أن الولايات المتحدة ستدير ظهرها للعراق، مع ما يعني ذلك من تداعيات على كل المنطقة التي شهدت ثلاث حروب في ثلاثة عقود كانت أميركا حاضرة فيها كما لم تحضر منذ حرب فيتنام. فهل يعقل بعد كل هذه التضحيات أن تترك العراق لإيران... وتترك لها معه مستقبل الخليج؟ لو كان الأمر بهذه البساطة لكانت الصفقة بين واشنطن وطهران أبرمت منذ زمن. فما تريده الجمهورية الإسلامية، قبل السلاح النووي وبعد وقف التدخل في شؤونها الداخلية، الاعتراف بدورها الراجح في الإقليم، سياسياً وعسكرياً وأمنياً ونفطياً.

وهذا ما يفسر ربما تكرار بعض الدوائر الأميركية، عشية وفاء أوباما بوعده، أن انسحاب القوات الأميركية لا يعني في أي حال مغادرة العراق. وهذا ما كرره السفير الأميركي الجديد في بغداد جيمس جيفري بتأكيده الصريح أن بلاده لن تتخلى عن العراق، laquo;بل إننا لا نغادر العراق. إننا ببساطة نسمح لأنفسنا بإنهاء وجودنا العسكري البريraquo;. ولم يفته القول للقلقين على مستقبل العراق إنه لم يلمس قوة النفوذ الإيراني في هذا البلد! واستدل على ذلك بفشل طهران في دفع التحالف الشيعي إلى تشكيل الحكومة الجديدة بعد مرور خمسة أشهر على الانتخابات البرلمانية!

ومثل هذا الاستدلال لاحظه بعض المراقبين عندما تدفقت القيادات العراقية الشيعية إلى بيروت قبل نحو شهرين للمشاركة في تشييع وتقديم التعازي بالسيد محمد حسين فضل الله، أحد المرجعيات الشيعية اللبنانية العربية البارزة. ومعروف أن الرجل لم يكن يلتقي مع القيادات الإيرانية في كثير من شؤون السياسة وبعض الاجتهادات الدينية. وأعطي هذا الأمر تفسيرات لا تخلو من أبعاد ليس أقلها أن شيعة العراق يتمسكون بمرجعيتهم النجفية تمسكهم بعروبتهم.

وبين الأهداف التي تحققت أو لم تتحقق، استفادة الولايات المتحدة من تمدد laquo;مضبوطraquo; للجمهورية الإسلامية نحو الخليج عبر حلفائها وبعض أدواتها. إن هذا التمدد يشكل مصدر قلق وخوف لدول المنطقة ما يدفع أهلها أكثر فأكثر إلى البحث عن ترتيبات أمنية وعسكرية مع أميركا وغيرها من الدول الكبرى، تماماً كما فعلوا إثر اجتياح الكويت. ومعروف أن لمثل هذه الترتيبات شروطاً سياسة واقتصادية ومقايضات.

ولا يغيب في باب أهداف الحرب ما ذكرته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليسا رايس، قبيل أشهر من مغادرتها وزارتها. تحدتث صراحة أن الحرب على العراق أزالت تهديداً رئيسياً لإسرائيل. وبالفعل شُطب العراق من كفة العرب في حسابات موازين القوى مع تل أبيب. كما لم تعد هناك بوابة شرقية للعالم العربي. ولا حاجة إلى التذكير بما دار بين الفلسطينيين والعراقيين على أثر سقوط نظام صدام حسين، وبمناشدات الفلسطينيين المقيمين في بغداد وبعض مدن العراق. كما لا يغيب ما كتبه كثير من الصحافة العراقية عن الوجود الإسرائيلي في كردستان.

وكان بين أهداف الحرب على العراق إقامة نظام ديموقراطي في بغداد، في إطار ما سمي laquo;الشرق الأوسط الجديدraquo;، يشكل نموذجاً مثالياً للأنظمة المجاورة، خصوصاً في إيران وسورية، قد يعجّل في نقل laquo;العدوىraquo; إلى هذين البلدين. وعجل هذا الهدف في استعداء البلدين ودفعهما إلى محاربة الوجود الأميركي في العراق... والواقع المؤلم أن laquo;النظام الديموقراطيraquo; الناشئ والفشل السياسي الذريع للقيادات العراقية حوّلَا العراق ساحة سهلة لشتى التدخلات من الجيران الأقربين والأبعدين.

وعلى رغم ما تحقق وما لم يتحقق في هذه الحرب، تدرك الجمهورية الإسلامية أن ثمة منافسين لها في العراق من غير الأميركيين أيضاً، وعلى رأسهم قوى كثيرة بينها السعودية وتركيا... وسورية أيضاً، حليفها الاستراتيجي. لذلك دون حصولها على الدور الراجح في هذا البلد، حروب وفوضى قاتلة. وإذا كانت التقت في الفترة التي تلت سقوط بغداد، مع دمشق في عرقلة المشروع الأميركي ، فإن أسباب خوفهما من الوجود الأميركي اليوم لم تعد كما كانت من قبل. لذلك يصعب توقع ارتياحهما إلى غرق هذا البلد في الفوضى، لأن في ذلك غرقاً لمصالحهما وحلفائهما ومصدر تهديد لهما. مع التذكير بأن ثمة تضارب مصالح بين الحليفين حول مستقبل العراق. هناك شبه تكليف عربي لسورية في laquo;الحفاظ على عروبة العراقraquo;. مع أن دمشق تدرك حدود دورها فيه، إلا ان موقعها الجغرافي يعزز حاجة إيران الماسة إليها في أكثر من ورقة، وعلى رأسها ورقة لبنان (حزب الله) وورقة فلسطين (قيادة laquo;حماسraquo; في دمشق). وهذا ما يسمح لها وفرض بعض التنازلات على حليفها الاستراتيجي.

أضف إلى أن التركيبة العرقية والطائفية والمذهبية في العراق ستظل، كما هي حال اللبنانيين، تدفع العراقيين إلى الاستعانة بالخارج لضبط احتمالات التفجير. أي أن السّنّة ومعهم الأكراد وكيانات وقوى أخرى ستظل تشعر بالحاجة إلى دعم أميركي وعربي وتركي من أجل مواجهة laquo;الغلبةraquo; الإيرانية في هذا البلد.

لم تحقق الولايات المتحدة الكثير من أهدافها في حرب العراق، لكن ذلك ليس مدعاة لتحتفل إيران بهزيمة واشنطن، فالمواجهة قائمة في هذا البلد وعليه... وما دامت لم تصل بعد إلى المنعطف الفاصل بين التسوية أو استئناف الحرب التي بدأت في أفغانستان ثم العراق وتناسلت حروباً في الطريق بين جنوب لبنان وغزة وغيرهما، ليس أمام العراقيين والعرب سوى تعداد... الخسائر.