عبداالله المدني
منذ أن أطلقت جامعة laquo;جياوتونغraquo; الصينية في شنغهاي في العام 2003 فكرة التصنيف الأكاديمي لجامعات العالم سنويا، وهذا التصنيف الذي يشتمل على مقارنة أداء نحو 1200 جامعة حول العالم يستقطب اهتمام الكثيرين، بل صار يثير الهلع والقلق لدى وزارات التعليم العالي، ولا سيما في الدول النامية غير الواثقة من جودة برامجها التعليمية. وليس أدل على أهمية هذا التصنيف مما ذكرته مجلة laquo;الإيكونوميستraquo; البريطانية في عام 2005 من أنه صار مرجعا معتمدا على نطاق واسع، أو مما ذكرته دورية laquo;كرونيكل أوف هاير إيديوكيشنraquo; التي وصفته بأنه أفضل وأقوى التصنيفات نفوذا على المستوى العالمي، بالرغم من أن الصينيين حينما أطلقوا فكرته لم يهدفوا إلا إلى معرفة الهوة التي تفصل جامعاتهم عن الجامعات الأجنبية.
ويمكن القول إن تأثير هذا التصنيف يتأتى من الأدوات البحثية عالية المتانة التي تستخدم في التبويب بحسب قول مستشار جامعة أكسفورد البريطانية وحاكم هونغ كونغ الأسبق laquo;سير كريس باتنraquo;، هذا ناهيك عن المعايير الدقيقة المستخدمة في عملية التصنيف والتي تشتمل على عدد من نال من خريجيها أو أساتذتها جوائز عالمية raquo;كجائزة نوبلlaquo; في الحقول المعرفية المختلفة، وعدد البحوث والدراسات والاكتشافات المنجزة لخدمة البشرية، وعدد ونوعية الكتب والمطبوعات التي خرجت من مطابعها، ومدى مساهمتها في تطوير العلوم الإنسانية، وغيرها من العوامل.
على أنه - كما في كل أمر- ووجه التصنيف الصيني بالكثير من الانتقادات منذ عام 2003. فمن قائل أن المعايير التي يستخدمها الصينيون غير كافية ومضللة، إلى قائل بأنها تفصل بين عوامل لا يمكن النظر إليها إلا مجتمعة. وردا على تلك الانتقادات قال أكبر مسؤول عن التصنيف وهو laquo;تشينغ يينغraquo;، إنه من المحال قياس جودة الجامعات بدقة، وبالتالي فإن أي تقدير أو تقويم لا بد وأن يثير حالة من الجدل.
أما الاهتمام العالمي بالتصنيف الصيني الأكاديمي فمنبعه هو أنه يسهل التعرف على أوجه القوة والضعف في أية جامعة، وبالتالي يسهل عملية إطلاق المبادرات بهدف محو أوجه الضعف والقصور والخلل. وطبقا للبروفسور laquo;بيل داستيلرraquo; كبير باحثي معهد laquo;روتشيسترraquo; للتكنولوجيا، فإن التصنيف المذكور يوضح المزايا النسبية لجامعات أوروبا وأمريكا في مجالات الفكر والخلق والإبداع ورعاية المواهب، ناهيك عن الحدود التي بلغتها الجامعات غير الغربية في تنافسها المحموم من أجل الاقتراب من المستوى العلمي للجامعات الغربية. وفي هذا السياق، نـُقل عن laquo;جان فيغلraquo; مفوض التربية في الاتحاد الأوروبي قوله إن التصنيف الصيني أتاح فرصة معرفة الكثير عما حققته جامعات الصين وغيرها من الجامعات الآسيوية، مضيفا laquo;إن أوروبا لاتزال هي الأقوى لجهة أعداد الجامعات وإمكانياتها، لكن مراتبها صارت تتراجع تدريجيا لجهة الجودة والجاذبية، وبما ينذر- في حالة عدم التحرك سريعا- بخسارة مواقعنا لصالح جامعات صينية أو هنديةraquo; ويمكن البرهان على صحة ما ذكره laquo;فيغلraquo; بالإشارة إلى المراتب المتدنية للجامعات الفرنسية في التصنيف الأكاديمي الصيني لعام 2010 ، كما سنتبين لاحقا.
وحينما يتفحص المرء قائمة التصنيف الأكاديمي لعام 2010 والتي نشرت مؤخرا، سيجد أن الاكتساح كان كالعادة للجامعات الأمريكية. حيث اشتملت قائمة أفضل 500 جامعة في العالم على 168 جامعة أمريكية تتقدمها هارفرد raquo;أفضل جامعات العالم للسنة الثامنة على التواليlaquo;، وبيركلي، وستانفورد، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وبرنستون، وكولومبيا، وشيكاغو، بالترتيب، علما بأنه لو تحدثنا عن أفضل عشر جامعات على مستوى العالم لوجدنا 8 منها من الولايات المتحدة، ولو تحدثنا عن أفضل مائة جامعة لوجدنا 54 منها أيضا في الأخيرة.
أما الجامعات الأوروبية فاحتلت المراتب الوسطى أي دون المائة. حيث نجد في قائمة افضل 500 جامعة: 40 جامعة بريطانية تتقدمها جامعة كامبردج في المرتبة الخامسة، وجامعة أكسفورد في المرتبة العاشرة، وكلية لندن الجامعية في المركز 21. ونجد في القائمة 21 جامعة فرنسية أفضلها جامعتي laquo;باريس 6raquo; وlaquo;باريسraquo; 11 اللتين جاءتا في المركزين 39 و45 على التوالي. و40 جامعة ألمانية تتقدمها جامعة ميونيخ في المركز 52. و12 جامعة هولندية بقيادة جامعتي laquo;أوترختraquo; وlaquo;ليدنraquo; اللتين جاءتا في المركزين 50 و 70 على التوالي. وثماني جامعات سويسرية أفضلها معهد زيوريخ الاتحادي للتكنولوجيا الذي احتل المرتبة 23. و23 جامعة إيطالية. وخمس جامعات فنلندية بقيادة جامعة هلسنكي صاحبة المركز 72، ومثلها من الدانمارك التي احتلت المركز 54 بفضل جامعة كوبنهاغن. وثلاث جامعات من كل من بولندا وإيرلندا. وجامعتان من كل من روسيا واليونان وتركيا والمجر. وجامعة واحدة من كل من البرتغال وجمهورية التشيك.
أما بالنسبة لجامعات جنوب آسيا والباسفيكي والشرق الأقصى، فإن قائمة الـ 500 اشتملت على 34 جامعة يابانية و 22 جامعة صينية، و5 من تايوان، و5 من هونغ كونغ، و8 من كوريا الجنوبية، وجامعتان من كل من الهند وسنغافورة، 14 من أستراليا، و5 من نيوزيلنده، وست جامعات إسرائيلية تتقدمها الجامعة العبرية في القدس التي احتلت مركزا متقدما فجاءت في المرتبة الـ 72، علما بأن هذه الجامعة تأسست في عام 1884 أي قبل وقت طويل من قيام دولة إسرائيل كجزء من الخطة الصهيونية المبكرة لتخريج العقول القادرة على ضمان أمن وسلامة وتنمية laquo;الأرض الموعودةraquo;، وذلك بدليل حرصها على استقطاب علماء يهود أفذاذ للعمل بها من أمثال laquo;ألبرت أنيشتاينraquo;، وlaquo;صموئيل فرويدraquo;.
أما ماليزيا التي كثر الحديث عن تقدمها العلمي وإنجازاتها المبهرة فلم تستطع أي من جامعاتها دخول القائمة للسنة الثامنة على التوالي، الأمر الذي عد فضيحة طبقا لوزير تعليمها laquo;خالد نورالدينraquo;، خصوصا عند مقارنة هذا البلد بجارته الصغيرة سنغافورة.
لكن فضيحة ماليزيا لا تقارن بفضيحة المنطقة العربية التي خلت القائمة الصينية من اسم أقدم جامعاتها العصرية وهي جامعة القاهرة raquo;تأسست عام 1908laquo;، واسم أفضل جامعاتها وهي جامعة بيروت الأمريكية raquo;تأسست في عام 1866laquo;. غير أن جامعتين سعوديتين هما laquo;جامعة الملك سعود الأولraquo; raquo;تأسست عام 1957laquo; وlaquo;جامعة الملك فهد للبترول والمعادنraquo;raquo;تأسست عام 1963laquo; حفظتا ماء وجه العرب نسبيا بتواجدهما للمرة الأولى في القائمة. ونقول نسبيا لأنهما احتلا مرتبتين متأخرتين هما 197 و 303 على التوالي، الأمر الذي حدا بالإعلام العربي إلى إخفاء الرقمين الأخيرين والاكتفاء بعبارة laquo;أنهما كانا ضمن أفضل 500 جامعة في العالم. لكن الجامعتين السعوديتين الحديثتين نسبيا يحق لهما الافتخار ليس لدخولهما القائمة فحسب، وإنما أيضا لتفوق مركزيهما على جامعة دولة تكثر من الضجيج والإدعاء بتفوقها العلمي وأبحاثها النووية وتخريجها للعباقرة، والإشارة هنا بطبيعة الحال هي إلى جامعة طهران raquo;تأسست في عام 1928laquo;، والتي جاءت في المركز 488، الأمر الذي يثير شكوكا كثيرة حول مدى جودة برامج إيران النووية والصاروخية ومدى قدرة العاملين فيها على إدارتها بكفاءة.
إن القائمة الصينية للتصنيف الأكاديمي في نسختها الجديدة يؤكد للمرة الألف أن نظام تعليمنا العالي يعاني من وجود خلل كبير على جميع المستويات، وأن دخول جامعاتنا في القائمة في المستقبل، أو الارتقاء بمواقع جامعاتنا الموجودة حاليا على القائمة لن يتأتى بالأمنيات والدعوات، وإنما بثورة تعليمية على مستوى التعليمي العالي ومستوى التعليم ما قبل الجامعي أيضا، وذلك من أجل خلق أجيال واعدة من خريجي الثانوية، قادرة على الإيفاء بمستلزمات المرحلة الجامعية باقتدار. والثورة التي نطالب بها يجب أن تتجاوز إقامة المباني الرخامية الفاخرة والقاعات الفسيحة - رغم أهمية هذا الأمر لجهة توفير بيئة جاذبة ودافعة إلى الخلق والابتكار ndash; إلى إقامة أفضل المعامل والمختبرات المزودة بأكثر الأجهزة والتقنيات المتوفرة، والإنفاق اللامحدود على البحوث والدراسات، وتدريب الكوادر الأكاديمية الوطنية في أرقى الجامعات الأجنبية مع استعارة أفضل الأساتذة وأكثرهم خبرة من جامعات الدول المتقدمة، علاوة على تشجيع طلبتها على الحوار الفكري والتواصل المستمر مع المجتمع والاهتمام بمشاكله. إذ لا تقدم ولا تطور في مجال التعليم العالي إذا ما اعتمدت جامعاتنا على أكاديميين معوقين علميا، أو على عقول متمسكة بالخرافات والأساطير، أو على أساتذة لم يحتكوا قط بالعالم المعاصر وما يجري فيه من حراك غير مسبوق، أو على أبنية متهالكة ضيقة أقيمت أساسا لكي تستخدم كشقق أو دكاكين - كحال إحدى جامعاتنا البحرينية التجارية المقامة فوق محل لبيع الهمبرغر - أو على بيئات طاردة للمبدعين ومناخات تقيد حركة الخلق والابتكار والتواصل بحجج الحلال والحرام، أو على طلبة غير مرتبطين بقضايا مجتمعهم.
التعليقات