احمد عمرابي
هل يعني الانسحاب العسكري الجزئي للقوات الأميركية من العراق أن الولايات المتحدة قررت أخيراً إسقاط أجندة أهدافها غير المعلنة التي من أجلها خططت ونفذت حملة الغزو الضارية في عام 2003 ومن ثم أخضعت العراق لاحتلال عسكري شامل على مدى السنوات السبع الأخيرة؟
كما هو معلوم فإن الهدف الأكبر المعلن كان تدمير ترسانة من الأسلحة النووية وأسلحة دمار شامل أخرى روجت لوجودها لدى عراق صدام آلة الدعاية الأميركية.
ولكن سرعان ما ثبت في أعقاب الغزو أن هذه الترسانة لم تكن سوى أسطورة من تأليف وإخراج وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بالتواطؤ مع مجموعة (المحافظين الجدد) في البيت الأبيض على عهد إدارة جورج بوش الابن.. وبالتالي لم تكن أسطورة أسلحة الدمار الشامل سوى مجرد ذريعة لتبرير حملة الغزو على مستوى كل من الرأي العام الأميركي والرأي العام العالمي.
ما هي إذن الأهداف الحقيقية غير المعلنة؟
هناك ثلاثة أهداف رئيسية:
أولاً: فرض سيطرة أميركية على صناعة النفط الوطنية العراقية.
ثانياً: الانتقال بالعراق إلى نظام اقتصاد السوق عن طريق تصفية القطاع بالكامل تقريباً وفق برنامج خصخصة واسع النطاق وطويل المدى للتمهيد لإنشاء قطاع يشمل كل نواحي ومجالات النشاط الاقتصادي وقطاع الخدمات الأساسية خاصة التعليم والرعاية الصحية وشبكات المياه والإمداد الكهربائي لتتوالى هذه الأنشطة شركات أميركية تمارس أعمالها على أساس تجاري ربحي.
ثالثاً: إدخال العراق إلى طريق سياسي يفضي به بالتدريج إلى الاعتراف الرسمي بإسرائيل وإقامة علاقات رسمية معها بما يسمح للشركات الإسرائيلية دخول السوق العراقية.
في عراق صدام كانت الصناعة النفطية العراقية خاضعة لسيطرة الدولة. والآن فإن الهدف الأميركي بعيد المدى هو تفكيك هذه الهيمنة الحكومية للتمهيد لشركات النفط الأميركية للاستيلاء على هذه الصناعة الإستراتيجية والتحكم فيها إنتاجاً وتسويقاً.
هكذا تريد الولايات المتحدة أن تسيطر بصورة كاملة على حركة الاقتصاد الوطني العراقي على الصعيدين الداخلي والخارجي ليكون أصحاب رؤوس الأموال الأميركية ؟ لا فئات الشعب العراقي ؟ المستفيد الأكبر.
وبدخول الشركات الإسرائيلية السوق العراقية جنباً إلى جنب مع الشركات الأميركية فإنه سوف تنشأ بالتداعي علاقة دبلوماسية وتجارية وسياسية بين العراق والدولة الإسرائيلية بما يمهد بالتدريج لاعتراف عراقي بإسرائيل يمهد بدوره لوجود استخباراتي لإسرائيل على الأرض العراقية.
من هذه الزاوية العريضة ننظر في الانسحاب العسكري الجزئي للقوات الأميركية من العراق. إنه انسحاب جزئي لأنه إذا غادرت العراق قوة عسكرية أميركية من 200 ألف جندي فإن الإدارة الأميركية تركت قوة متبقية من 50 ألف جندي. وهنا علينا أن نلاحظ أن هذه القوة المتبقية مجهزة قتالياً بصرف النظر عما تردده إدارة أوباما بأن الغرض من إبقائها هو أن دورها يقتصر على (التدريب والإسناد). ولنلاحظ أيضاً أن القوات الباقية موزعة على عشرات من القواعد العسكرية الأميركية القائمة في أنحاء الأراضي العراقية.
هذا وضع احتلالي يجعل من دولة العراق محمية أميركية فقدت السيادة الوطنية.
ما المغزى؟
هذا التساؤل يعود بنا إلى الأهداف الاستراتيجية الأميركية الثلاثة المشار إليها آنفاً. فلكي تتمكن الولايات المتحدة من تطبيق هذه الأهداف بالتدريج المريح فإنها تحتاج إلى آلة سلطوية حكومية في بغداد تتشكل من شخصيات عراقية تنتمي إلى قوى سياسية داخلية ذات ولاء كامل للولايات المتحدة.
وهذه القوى تحتاج بدورها إلى وجود عسكري أميركي قوي من أجل حمايتها وإسنادها. وعلى هذا النسق يشكل الوجود العسكري الأميركي أيضاً قوة ضغط سياسي لصالح الآلة السلطوية الموالية.
نجاح هذا التصور الأميركي على المستوى التطبيقي يعتمد على كيفية تعامل الولايات المتحدة مع مصالح وأهداف الدول الأخرى الواقعة في الجوار الجغرافي العراقي. ذلك أن الولايات المتحدة تنسى كما يبدو أن على الساحة العراقية لاعبين آخرين يشكل كل منهم قوة منافسة.
وفي مقدمة هؤلاء اللاعبين إيران وتركيا. لقد كان عراق صدام البعثي أقوى وأخطر خصم في المنطقة في مواجهة إيران. وبالتدمير الأميركي الكاسح للعراق كقوة إقليمية زال هذا الخطر عن إيران تلقائياً مما مهد لطهران دخول الساحة السياسية الداخلية العراقية بقوة.
أما من المنظور التركي فإن لدى أنقرة مخاوف من التصور الأميركي لمصير العراق ومستقبله. فالولايات المتحدة حليف قوي لكردستان العراق. وبهذه العلاقة التحالفية فإن واشنطن تدعم التوجه الكردستاني نحو الانفصال وإنشاء دولة كردية مستقلة في الشمال العراقي.. الأمر الذي يشجع أكراد تركيا أيضاً على الانفصال.
والسؤال الذي يُطرح أخيراً إذن هو: هل تتمكن الولايات المتحدة من إقامة آلة حكم في العراق تتبنى بالكامل الأجندة الأميركية إذا أخذنا في الاعتبار ما ينتظر واشنطن من صراع إقليمي مع إيران وتركيا وصراع داخلي في الساحة السياسية العراقية ينطلق من خصومات ذات طابع طائفي معقد؟
التعليقات