يوسف عبدا لله مكي

لم يحدث أبدا في تاريخ النضال الوطني ضد القوى الاستعمارية التقليدية أن تحقق نصر عسكري حاسم، ضد قوى الاحتلال. ذلك ينسحب على هزيمة فرنسا بالجزائر، وهزيمة الولايات المتحدة بالهند الصينية

نواصل في هذا الحديث المناقشة التي بدأنا بها في الأسبوع الماضيِ، تحت عنوان: quot;حانت لحظة الحقيقة... فماذا بعد؟!quot;. فقد تركنا في نهاية حديثنا أسئلة وعدنا بتناولها لاحقا. هل سيرحل الأمريكيون فعليا ونهائيا عن أرض السواد؟ بما يعني إعلان هزيمة المشروع الأمريكي للقرن الواحد والعشرين. وهل سيبقى النظام العربي الرسمي، متفرجا، أمام تدخلات إيران وسعيها الدؤوب لمحو عروبة العراق؟ وهل ندرك نحن هنا إسقاطات ذلك وتداعياته ومخاطره على الأمن الوطني والإقليمي لدول الخليج العربي؟ وهل علينا أن نظل مكتوفي الأيدي في مواجهة الإعصار؟.
سنكرس هذا الحديث، وربما أحاديث قادمة أخرى، للإجابة على هذه الأسئلة.
وابتداء نعود لبعض المقدمات النظرية ذات العلاقة بموضوع النصر أو الهزيمة في مواجهة أي مشروع احتلالي.
الطريحة الأولى: أنه لم يحدث أبدا في تاريخ النضال الوطني ضد القوى الاستعمارية التقليدية أن تحقق نصر عسكري حاسم، ضد قوى الاحتلال. ذلك ينسحب على هزيمة فرنسا بالجزائر، وهزيمة الولايات المتحدة بالهند الصينية. فحين نأخذ خسائر الفرنسيين في الأرواح، مقارنة بخسائر الجزائريين من الشهداء، فإن النسبة لا تساوي 1- 10. والحال ذلك ينسحب على خسائر الفيتناميين في مواجهتهم للجيش الأمريكي.
الذي يحدث إذا، هو هزيمة سياسية وليس عسكرية. وطالما أن الاحتلال في النهاية سوف يندحر، فليس يهم أن تكون الهزيمة عسكرية أو تكون سياسية. تكابر قوات الاحتلال في مواجهتها للشعب المستهدف لفترة طويلة، ويقوم الشعب المحتل، باستنزاف قدرات العدو، ليس بهدف هزيمته فذلك ما لا يمكن تحقيقه، بسبب انعدام التوازن في القدرات العسكرية والتعبوية بين الجانبين، ولكن بهدف إنهاكه، وخلق قوة معارضة قوية للحرب بالمركز، كما حدث في كبريات المدن الأمريكية أثناء حرب فيتنام.
يضاف إلى ذلك، أن الحروب لا تشن دائما، بهدف تكريس واقع احتلالي، بل ربما كان ذلك آخر ما تضعه إدارة الاحتلال، في حسبانها. فهدف الاحتلال ربما يكون سياسيا أو عسكريا أو اقتصاديا. وإذا ما تحققت هذه الأهداف، فإن البلد المعتدي لا يجد مبررا كافيا لإبقاء قواته في البلد المحتل، ويضع نفسه موضع ريبة وشك، وسخط عالمي ومحلي. فهو يكفيه في هذه الحالة أن ينجز الأهداف التي نفذ الاحتلال من أجلها. بمعنى أن الرحيل لا يعني دائما هزيمة المشروع الاحتلالي.
ماذا يعني ذلك بالنسبة لموضوع الانسحاب الأمريكي من العراق؟ هل نحن أمام هزيمة عسكرية أو سياسية للمشروع الأمريكي الكوني للقرن الواحد والعشرين؟ وهل يعتبر الانسحاب في الجانب العملياتي تراجعا عن المشروع؟. ولماذا كانت نقطة البداية في المشروع هي أرض السواد وليس غيرها؟.
لأسباب عملية، سنبدأ من حيث انتهينا في الأسئلة: لماذا كان العراق مفتاحا تنفتح باحتلاله كل البوابات، بحيث أصبح نقطة البداية في تحقيق المشروع الكوني الأمريكي للقرن الواحد والعشرين. المشروع الذي اعتبر بعث مشروع الشرق الأوسط، الكبير سابقا بنسخة محدثة، أو جديدة حجر الزاوية في هذا المشروع.
التفكير في الهيمنة على العراق، من قبل دوائر صنع القرار الأمريكي، لم يكن وليد صدفة، بل كان دائما في حسابات الأمريكيين. وهناك جملة من الأسباب التي تحفز الأمريكيين على ذلك.
فالعراق، حتى إسقاط حكمه الملكي، في نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، لم يكن مجرد حليف للغرب، ولكنه كان مهمازا رئيسيا في سياسات أمريكا وبريطانيا، بعد احتدام الحرب الباردة. وكان جزءا من الهلال الذي يطوق الاتحاد السوفييتي أثناء تلك الحرب، والذي يمتد من باكستان إلى تركيا، شاملا إيران والعراق. ولذلك لم تكن صدفة أيضا، أن يتشكل حلف عسكري، يضم دول الهلال أو القوس، وأن يتسمى هذا الحلف، باسم بغداد، حيث تم الإعلان عن تأسيس الحلف، وتم التوقيع على وثائقه بالعاصمة العراقية. وتكون بريطانيا العظمى عضوا رئيسيا فيه، وتنال فيه الولايات المتحدة الأمريكية صفة المراقب. وتصبح جميع البلدان المرتبطة بهذا الحلف، جزءا متمما لحلف الناتو، بحكم قيادة بريطانيا لحلف بغداد. لقد كان هناك شعور دائم، من قبل أمريكا وحلفائها بالغرب، بفداحة الخسارة، التي نتجت عن انفلات مكونات القوس الذي أريد له محاصرة السوفييت. وقد استمر هذا الوضع حتى بعد السقوط الدرامي للاتحاد السوفييتي، في مطالع التسعينيات.
يضاف إلى ذلك، أن العراق هو البلد الوحيد في العالم، الذي يتنافس مع المملكة العربية السعودية، من حيث احتياطيه النفطي، والنفط كان ولا يزال محرك الصناعة، وعصب الحياة في هذا العصر، والذي يتمكن من السيطرة عليه، يكون بإمكانه الإمساك بخزائن الأرض. ومنذ حرب أكتوبر عام 1973 بين العرب والصهاينة، برزت عدة تصريحات أطلقها دهاقنة السياسة الأمريكية، وفي مقدمتهم هنري كيسنجر وديفيد روكفلر أشارت إلى أن لجم الاندفاع الاقتصادي والصناعي لكل من اليابان وألمانيا، يقتضي السيطرة على منابع النفط في منطقة الخليج العربي. وهددت الولايات المتحدة الأمريكية باحتلال آبار النفط وشكل الرئيس الأمريكي، جيمي كارتر قوات التدخل السريع، للتعامل مع أي طارئ. وتطورت تلك القوة لاحقا، لتصبح قوات النجم الساطع. وقد نفذت تلك القوات مناورات عدة، في فترات متقطعة، بعدد من البلدان العربية.
والعراقِ، حتى نهاية الثمانينات أيضا الدولة الوحيدة، القادرة على لجم المطامع التوسعية الإيرانية. وكان المعادلة الجيوسياسية والتاريخية في المنطقة، قد خلصت إلى نتيجة مفادها أن قوة العراق تؤدي إلى ضعف إيران. والعكس صحيح أيضا، فقوة إيران ستأخذ حتما من حصة القوة العراقية. إن دعم أي من البلدين عسكريا، من قبل الغرب يعني حكما إضعاف البلد الآخر. ولأن العراق، قد أصبح منذ نهاية الخمسينيات في عداد الدول الصديقة للسوفييت، فإن المنطقي أن تعمل الولايات المتحدة والدول الغربية المتحالفة معها تغليب كفة إيران العسكرية، لتكون قادرة على مواجهة العراق. وقد جعلت هذه السياسة من إيران القوة العسكرية الأولى في المنطقة، والدولة الأكثر رعاية عسكريا من قبل الغرب، بعد الكيان الصهيوني.
والعراق، أيضا من حيث توجهاته السياسية، من وجهة نظر الغرب والصهاينة، ليس دولة تصالح، فأنظمته المختلفة، شاركت في كل الحروب، التي خاضها العرب دفاعا عن وجودهم ضد الكيان الصهيوني الغاصب. إضافة لذلك، بقي نظامه الوطني، حتى لحظة إسقاطه في الخندق المعادي للتسويات السلمية مع إسرائيل، وكان مظلة لعدد من حركات المقاومة الفلسطينية، ولذلك غدا تفتيت العراق مطلبا إسرائيليا بامتياز. بعد حرب الثماني سنوات بين إيران والعراق، وغزو العراق للكويت عام 1990م، انضمت إيران والولايات المتحدة لقافلة المتبنين لتقسيم العراق. وأصبح هناك تحالف معلن أحيانا، بحيث بلغ حد التشاور والتنسيق، وخفي في معظم الأحيان، بين مثلث إسرائيل ndash; إيران- أمريكا، لتفتيت أرض السواد.
كانت تقارير أمريكية قد نشرت في بداية السبعينيات أشارت إلى أن العراق أرض رخوة، وأنه يضم لوحة فسيفسائية تفتقر إلى الوحدة والانسجام. بل ذهبت تقارير أخرى إلى أبعد من ذلك، فأشارت إلى أن العراق، هو لوحة مشدودة بصمغ شمعي قابل للذوبان في كل لحظة.
الأسئلة تبقى قائمة: هل نجح المشروع الأمريكي في العراق؟ وأسئلة أخرى، ستكون موضوع مناقشتنا بالحديث القادم.