الطيب بوعزة


تتحدد المعرفة بكونها محصلة علاقة الوعي بالوجود، ولذا فالأساس المنهجي يكمن في تلك العلاقة الرابطة بين هذين البعدين (الذات المدركة والوجود). وبحث طبيعة المعرفة من حيثية هذه العلاقة يعد إشكالا محوريا في الفكر الفلسفي، اخْتُلِفَ كثيرا في تحديد جوابه، فانقسم هذا الفكر إلى تيارات متباينة وتفرق إلى نزعات مختلفة.
ورغم ذهاب مؤرخي الفكر الفلسفي إلى القول بأن أسئلة المعرفة والمنهج لم يتم تركيز البحث فيها إلا مع مجيء الفلسفة النقدية -مع دفيد هيوم، ثم خاصة مع كانط- التي نبهت إلى ضرورة نقد ملكة العقل وبيان حدودها، فإن ذلك لا يعني عدم طرح الاستفهام المعرفي بمدلوله النقدي من قبل، بل يقصد به عدم استقرار هذه الأسئلة في صيغة مبحث معرفي مستقل له الأولوية في ترتيب النظر الفلسفي. أما عن طرح السؤال في المباحث الأخرى فمتداول منذ الإغريق. كما نجده في تراثنا الثقافي الإسلامي، حيث تناول مفكرو الإسلام جوانب من هذه الأسئلة، الدالة بحد طرحها على يقظة التفكير، وارتداده إلى تأمل أداوته ووسائله في المعرفة، واحتراسه من مزلق الإطلاقية والوثوقية. وإن لم يتم -للأسف- تطوير هذه الممارسة المعرفية واستثمار مستلزماتها في مختلف المباحث والمجالات.
فما ملامح معالجة الفكر الإسلامي لهذه العلاقة؟ وما جوانب تميزه وفرادته؟
يختلف القرآن عن مذاهب الفكر والتفلسف التي ترجع الوجود أو ترهنه بالذات المدركة، حيث يفصل القرآن فصلا جوهريا بين الإدراك والوجود. وهذا ما أدركه الكثير من الفقهاء والعلماء، فأسسوا عليه تصورهم لطبيعة الوعي ومحدودية وسائله..
فالعلامة بن خلدون -مثلا- يقول في مقدمته منتقدا الظن بلا محدودية الفعل الإدراكي الذي يصدر من الوعي في اتجاه احتواء الوجود ذهنيا:
laquo;ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كله، وسفه رأيه في ذلك، واعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها، والأمر في نفسه بخلاف ذلك والحق من ورائهraquo;.
ثم للاستدلال على فكرته يأتي بمثالين اثنين، فيقول:
laquo;ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع والمعقولات، ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات.. وكذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيات.. لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم..raquo;.
وبعد توكيد محدودية الإدراك بالإشارة إلى محدودية الوسائل التي ينفتح بها الوعي على الوجود، يقول ابن خلدون بأسلوب الافتراض:
laquo;فلعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا، لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلكraquo;. (المقدمة: ص 461).
إن توكيد محدودية الإدراك توكيد على حقيقة طبيعة المعرفة البشرية من حيث هي معرفة نسبية لا يمكنها أن تحيط بالوجود، بل يند عنها منه أكثر مما تنالها وسائلها ومقاييسها في الإدراك والنظر.