عبدالله السويجي

أقام القس تيري جونز رئيس كنيسة متواضعة، الدنيا ولم يقعدها بإعلانه أنه سيحرق القرآن الكريم في مكان عام في جينسيفيل في الولايات المتحدة الأمريكية، وهبّت احتجاجات شعبية عربية وإسلامية تدين هذا العمل وتستنكره، أما الاحتجاجات الرسمية العربية والإسلامية فكانت خفيفة وغريبة، وموضوعنا ليس عن تيري جونز ولكن عن المسافة التي تفصل بين الحرية الشخصية والاعتداء على المعتقدات السماوية، إضافة إلى الاحتجاجات العشوائية التي تنزل للشارع، ويموت فيها بشر ويجرح آخرون، وهؤلاء يعرفون أنهم لا يشكلون ضغوطاً على حكوماتهم، وتضحياتهم أحياناً تذروها الرياح، كما حدث مع الاحتجاجات والمظاهرات التي خرجت ضد الكاتب الإنجليزي سلمان رشدي، وراح ضحيتها العشرات، بينما لا يزال رشدي ينعم بحياته وبحماية من السلطات الإنجليزية .

قبل كل شيء لا بد من التذكير بأن أتباع هذه الكنيسة لا يتجاوز عددهم خمسين شخصاً، وتيري جونز الذي تسلم رئاستها في العام 1996 كان يعمل قبل ذلك مديراً لفندق بمساعدة زوجته سيلفيا، ووفقاً لما جاء في الموقع الإلكتروني ل(بي بي سي) فإن تيري جونز، (وقبل تسلمه رئاسة هذه الكنيسة أدار شؤون كنيسة مماثلة في مدينة كولون بألمانيا وهي ldquo;المجموعة المسيحية في كولونrdquo; لأكثر من 20 عاماً، وطلب منه المنتمون لتلك الكنيسة سنة 2008 تركها بسبب خلاف حول ldquo;أسلوبه في القيادةrdquo;، وفقاً لنائب رئيس الكنيسة الألمانية ستيفان بار . وتقول صحيفة ldquo;جينسفيل صنrdquo; إن محكمة كولون الإدارية دانت جونز سنة 2002 وحكمت عليه بدفع غرامة بسبب استخدامه لقب دكتور من دون استحقاق، كما اتهمته ابنته إيما التي كانت من كبار المنتمين إلى الكنيسة بعدم الأمانة في التعاملات المالية، ويقال إن إيما جونز لا تزال تقيم في كولون بعد انشقاقها عن الكنيسة . هذا هو تيري جونز الذي يقحم نفسه في أخطر عملية عدائية تقدم عليها فرقة دينية غير مسلمة .

في هذه الأثناء، قامت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، يوم الأربعاء الماضي، بتكريم الرسام الدنماركي كورت فيسترغارد، الذي أثارت رسوماته المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم احتجاجات عنيفة في العالم الإسلامي، قبل خمسة أعوام، حيث حصل فيسترغارد (75 عاماً) الذي يعيش تحت حماية الشرطة على الجائزة تقديراً ldquo;لالتزامه الراسخ بحرية الصحافة والرأي وشجاعته في الدفاع عن القيم الديمقراطية على رغم التهديدات بأعمال العنف والموتrdquo; التي يتعرض لها، كما قال المسؤولون عن جائزة (إم 100 ميديا 2010) . وإذا كان تيري جونز لا يعكس وجهة نظر رسمية في حرقه للمصحف، فإن أنجيلا ميركل، وهي أعلى سلطة في ألمانيا، تعكس بالتأكيد وجهة نظر رسمية، وبتكريم الرسام، فإنها لا تولي اهتماماً لا للمسلمين ولا للعرب، وتؤكد بأن ما قام به الرسام هو حرية الصحافة والتعبير، ونحن في انتظار ردود الفعل العربية والإسلامية الرسمية على (الصديقة) ميركل، التي تؤخذ بالأحضان لدى زيارتها الوطن العربي والإسلامي .

وهناك خيط رفيع بين حرية الصحافة والتعبير وبين الاعتداء على حقوق الأديان الأخرى، ونود أن نورد مثالاً بسيطاً يحدث في أوروبا والعالم الغربي، فإذا قام أحد الأشخاص بإزعاج جيرانه عن طريق سماعه لموسيقا عالية، أو تربية كلب مزعج ينبح طوال الليل وغير ذلك، فهل سيسكت الجيران على ذلك؟ سيستدعون له الشرطة بتهمة إزعاج الآخرين، فهل يا ترى يستوي الأمران؟ ومرة أخرى يمكن أن نضرب مثالاً بسيطاً، هل ستكتفي السلطات بالتفرج لو أن أحد الأشخاص هاجم زوجة رجل وهي بصحبة زوجها؟ بالتأكيد ستعتبره اعتداء على العرض، فكيف تقف صامتة عن اعتداء على الدين، وهو والعرض صنوان .؟

إن من يشجع هؤلاء على ارتكاب هذه التصرفات الوقحة، هو الصمت الرسمي العربي والإسلامي، فحين قام الرسام الدنماركي بالسخرية من رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لم تقم أي دولة باستدعاء أي سفير أو وزير وتبليغ احتجاجها، وإنما أطلقت العنان للشارع كي يخرج بفوضاه، وقتلاه وجرحاه، ثم يعود الناس إلى بيوتهم محملين بالحنق والغضب والحقد .

إن الصمت في المواقف الرسمية هو الذي قاد ويقود الصهاينة إلى استمراء الاعتداء على المقدسات الإسلامية أيضاً، وكل مراقب يعلم ما تقوم به دولة الكيان الصهيوني من أعمال وإنشاءات يهودية حول المسجد الأقصى، لتكريس يهودية المكان، وهم يعلمون أنهم يقومون ببناء عشرات المعابد والكنس اليهودية، ويقومون بحفريات خطرة للغاية تحت المسجد الأقصى، من دون رد فعل واحد، بينما يواجه الفلسطينيون هذه الأعمال بصدورهم العارية، وأياديهم الخالية إلا من الإيمان بقدسية هذه الأماكن .

إن من المفارقات العجيبة، قيام بعض الأنظمة، بقمع أي قلم يريد التعبير عن رأيه ضد الولايات المتحدة الأمريكية، أو أي دولة أوروبية، وأحياناً الكيان الصهيوني، ألا يستحق ما يحدث في العالم من اعتداءات على صوت الروح العربية والإسلامية، أن يطلق العنان لحرية التعبير للمفكرين والمثقفين؟ أم أننا نحترم حرية رأي الآخر، ولا نحترم حرية رأينا؟

إن هذه الجماهير التي تخرج للشارع وتضحي بأنفسها، لن تقدم على هذا لو أنها رأت مواقف رسمية قوية وجريئة ضد هذه التحرشات التي لا علاقة لها بالحرية الشخصية . ولهذا، لا بد من استغلال هذه المناسبة/ المناسبات، لتحرك عربي شجاع، من خلال جامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وغيرها من المؤسسات، للتعبير عن رفضهم لهذه التصرفات التي تخدش الذوق العام والحس العام والثقافة العامة، لأن العالم الغربي اعتاد أن يتعامل بالكلام . كلينتون تدين، وأوباما يرفض، ووزير خارجية بريطانيا يحتج، وقائد قوات حلف الأطلسي يستنكر، لقد تعلموا منا (الشجب) بينما تستمر الأفعال الدنيئة على أرض الواقع .