يوسف عبدا لله مكي

لقد اكتشف الأمريكيون، أن احتلال العراق، لم يكن نزهة، وأن الكُلَف البشرية والاقتصادية عالية جدا. لكنهم حين اكتشفوا ذلك، كانوا قد غرقوا فعلا بالوحل، وتم الإفصاح عن أقسى أزمة اقتصادية تعرضوا لها منذ نهاية العشرينيات من القرن المنصرم

هل نجح المشروع الأمريكي للقرن الواحد والعشرين، بمحطته الأولى التي بدأت باحتلال العراق؟ سؤال يمكننا الإجابة عليه بنعم ولا في آن معا.
نجح المشروع الأمريكي، دون شك في مصادرة العراق كيانا وهوية. ونجح في تحييد ما بين النهرين عن صراع العرب مع الكيان الغاصب. ونجح - وإن كان ذلك بشكل مؤقّت - في إشعال الصراعات الطائفية، وتعميم الفوضى، وسيادة قانون الغاب، والقتل على الهوية، وتحويل مدن العراق، إلى كانتونات متناحرة. ونجح في إعادة العراق إلى العصر الحجري، وبناء quot;عراق جديدquot;، يستمد حضوره من توافقات الطوائف وليس من علاقات تعاقدية بين مواطنين أحرار، تحكم علاقاتهم المساواة والندية والتكافؤ.
وفشل المشروع، في التحرك بخطى سريعة، في تطويق المنطقة بأسرها، كما وعدت وأمّلت إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش الابن. لقد كان المُؤمّل أن يتمّ احتلال العراق، ويجري تنفيذ العملية السياسية فيه بسرعة. وكان بعض القادة الأمريكيين قد ساورهم الوهم بأن العراقيين سيرفعون الرايات البيضاء ويستقبلونهم بالزغاريد والرياحين. ولكن المقاومة العراقية، تكفلت بإيقاظهم من غفلتهم.
لقد اكتشف الأمريكيون، أن احتلال العراق، لم يكن نزهة، وأن الكُلَف البشرية والاقتصادية عالية جدا. لكنهم حين اكتشفوا ذلك، كانوا قد غرقوا فعلا بالوحل، وتم الإفصاح عن أقسى أزمة اقتصادية تعرضوا لها منذ نهاية العشرينيات من القرن المنصرم. لقد أراد الأمريكيون من احتلال العراق، السيطرة على خزائن الأرض، فوجدوا أن خزينتهم أضحت خاوية، وحينها كان الوقت لا يسعف إدارة المحافظين للتراجع، ولا يمكنهم من فعل أي شيء.
فالجيش الأمريكي واحتياطيوه جرى استنزافهما بالكامل، حيث نشر الأمريكيون منذ العام 2001 أكثر من مليون جندي، لحربهم في العراق وأفغانستان, بما يعني أن العمق الأمريكي أصبح مكشوفا، خاصة أن جميع الوحدات العسكرية التي أرسلت إلى ميادين الحرب، أُنهكت قواها، ولم تعد قادرة على العمل بدون إعادة تهيئة وتأهيل.
في هذا السياق، أفصح عدد من المراقبين السياسيين، أن الوجود الأمريكي بالعراق حد من قدرة الولايات المتحدة على اتخاذ قرارات مهمة في مواضيع إقليمية ودولية مهمة، وأن انسحابا جزئيا ربما يسهم في تحسين القدرات السياسية الأمريكية، في اتجاهات أخرى.
الانسحاب الأمريكي من العراق، لا يعني بأي حال من الأحوال، أن الأمريكيين قد تراجعوا عن مشروعهم للقرن الواحد والعشرين. يكفي أن نطل على ما يجري في مسارح الحروب والمواجهات، في: اليمن، والعراق، وفلسطين، والصومال، والسودان، وموريتانيا، وأفغانستان وباكستان، ليتأكد لنا أن الأمريكيين يصارعون بقوة لتثبيت مشروعهم في تفتيت هذه البلدان وإخضاعها، بما يعني أنهم لم يقرروا بعد التراجع عن مشروع الهيمنة الكونية الذي تبناه المحافظون الجدد، في مطالع هذا القرن. الشعور بعمق الكارثة، وبفداحة ما جرى في أرض السواد، وبأن الأمريكيين جاءوا إلى العراق، لكي يبقوا به طويلا، ربما يفسر حيادية العراقيين الواضحة، تجاه القرار الأمريكي بالانسحاب العسكري من العراق. المنطقي والمتوقع هو أن يكون الإعلان عن هذا القرار، خطوة مرحباً بها من قبل غالبية العراقيين، اتساقا مع تطلعات جميع الشعوب للحرية وحق تقرير المصير. وبالتأكيد فإن تأسيس جيش وطني عراقي قوي، وحكومة نزيهة مقتدرة، بعيدة عن الاصطفاف الطائفي هو مطلب قومي ووطني ملح. لكن العراقيين لا يثقون بالوعود الأمريكية، بعد أن جربوا مرارتها لأكثر من عقدين، من عمر الحصار والاحتلال.
هناك بالتأكيد ارتباك وتناقض واضح في التصريحات الأمريكية. التناقض يكمن في القول بانسحاب قوات الاحتلال الأمريكية من العراق، وبين ما تم الكشف عنه مرارا وتكرارا عن إقامة سبع قواعد عسكرية أمريكية دائمة في العراق، ومدها بكافة التجهيزات. وقد أوردت ذلك صحيفة quot;جمهوريتquot; التركية في يناير 2004.
وقد أكدت صحيفة quot;نيويورك صنquot; يوم 14/1/2004، نية الأمريكيين بالبقاء طويلا في العراق، من خلال خبر نشرته يشير إلى أن البنتاغون أتمَّ بناء نظام اتصالات عسكرية مستديما في العراق. هذه الشبكة تسمى quot;نظام ميكروويف العراق المركزي-CIMSquot; ونفذتها شركة quot;غالاكسي ساينتفك كوربوريشنquot;. وهذه الشبكة الدائمة تعني أنه حتى لو انسحبت القوات الأميركية فإن أعدادا كبيرة منها ستبقى في قواعدها التي أحصاها موقع quot;غلوبل سيكيوريتيquot; العسكري الأمني ﺒ12 قاعدة دائمة في كافة أنحاء العراق, وقد خصص الكونغرس الأمريكي مبلغ 236 مليون دولار لبناء قاعدة عسكرية دائمة جديدة أخرى، في العام المالي 2005.
إن ما يدفعنا للجزم بأن الانسحاب من العراق هو خطوة تكتيكية، هو ما أعلنته الإدارة الأمريكية ذاتها بأنها سوف تستعيض عن وجود هذه القوات بالتعاقد مع شركات أمنية أمريكية، كالبلاك ووتر، تضطلع تحت مسميات أخرى، بنفس الدور الذي اضطلعت به القوات الأمريكية المنسحبة.
هذه الخطوة التكتيكية تبدو مفهومة جدا في ظل المعطيات والظروف الإقليمية والدولية التي أشرنا إليها، في مناقشتنا السابقة. إن هذا الانسحاب، يأتي متزامنا مع تصعيد أمريكي للغة الهجوم ضد إيران، والحديث عن احتمالات مواجهة عسكرية بين الأمريكيين والإيرانيين.
ويأتي الحديث عن عجز القوات العراقية، التي صنعها الاحتلال عن التصدي لأي غزو خارجي، وهو ما أشار له الجنرال 'جورج دبليو كيسي' ليؤكد المسار التكتيكي لهذا الانسحاب. فقد ذكر الجنرال المذكورأن quot;هناك كتيبة عراقية واحدة فقط، تستطيع القتال دون مساعدة من الولايات المتحدة, وأن العراق بحاجة إلى 40 كتيبة إضافية على الأقل كي تستطيع قيادة عملياته مكافحة المقاومة، ليس بمفردها ولكن بمساعدة أمريكية. إن ذلك يتسق تماما مع تصريحات قائد قوات الاحتلال الأمريكي، الجنرال أوديرنو الذي أعلن مع عدد من زملائه أن قواته قد تبقى لسنوات حتى تطمئن إلى قدرة القوات العراقية على الإمساك بزمام الأمور.
من المؤكد أن انسحاباً أمريكياً جزئياً للقوات العسكرية، سيتيح للإدارة الأميركية هامشا أكبر من المناورة فيما يتعلق بمواجهة التحديات المعلنة مع إيران وكوريا الشمالية، وإسناد الكيان الصهيوني في مخططاته ضد سوريا ولبنان على الصعيد الدولي. وسيضع المقاومة العراقية أمام امتحان عسير وصعب، تجاه مواجهة احتمالات التدخل العسكري الإيراني المباشر في شؤون العراق.
ويبقى أن نؤكد أن مستقبل العراق، ليس شأنا عراقيا محضا، بل يمس صميم الأمن القومي العربي. والدفاع عن عروبة العراق وحريته واستقلاله، ينـبغي أن يـكون مسؤولية عربية جماعية، فالعراق هو الخاصرة الشرقية لهذا الأمن، وغيابه عن منظومة العمل العربي المشترك، يعني تآكلا لمنظومة الأمن العربي، وهو ما لا يقبل به أي عربي غيور على وجود ومستقبل أمته.