هدى الحسيني


اختار laquo;حزب العدالة والتنميةraquo; في تركيا إجراء الاستفتاء الذي استهدف السلطة القضائية، رغم تضمنه 26 بندا، في الذكرى الثلاثين للانقلاب العسكري الذي وقع عام 1980 وتبعته أربعة انقلابات فيما بعد. الاستفتاء كان أيضا لتكبيل المؤسسة العسكرية سياسيا، ولمنع المحكمة الدستورية من أن تهدد حكومة مدنية بالحل. ولم ينس رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أن المحكمة الدستورية منعت كل الأحزاب التي سبقت حزبه، أو بالأحرى التي غيرت من شكلها واسمها قبل أن تستقر على laquo;حزب العدالة والتنميةraquo; برئاسة من كان سابقا رئيسا لبلدية اسطنبول وزج به في السجن مدة 5 سنوات لنظمه قصيدة يعبر فيها عن حلمه برؤية المآذن تملأ مدينة اسطنبول: رجب طيب أردوغان.

كان من الضروري لأردوغان أن يفوز بنسبة مرضية، فهذه الإصلاحات جزء مهم من برنامجه. بذل جهدا كبيرا في حملته، كان يريد أن يكسب لأنه سيواجه انتخابات في شهر تموز (يوليو) من العام المقبل. ثم إن أسلوب قيادته يتعرض للكثير من النقد حتى من قبل أناس كانوا يدعمونه، فهو يُعتبر زعيما مقاتلا، له أسلوب تسلطي، وأثناء الحملة على الاستفتاء كان يهدد أصحاب المال والأعمال لأنهم رفضوا ببساطة أن يتخذوا موقفا مسبقا من الاستفتاء، وقد سبب له هذا الكثير من العداوات، ولوحظ أن الدعم له بدأ يضعف في السنتين الماضيتين.

الآن، والانتخابات المقبلة أمام عينيه، فإن نتائج الاستفتاء أعطته دعما مهما، التوقعات كانت على نتائج متقاربة، لكنه أنجز أكثر من التوقعات لأنه لا يزال يتمتع بدعم قوي في الريف التركي.

لكن ماذا سيفعل بهذا وكيف سيحسبه؟ بعد ثماني سنوات في السلطة لا يزال أردوغان عامل تقسيم حقيقي، إذ لا يثق به عدد كبير من الأتراك، وبالذات العلمانيون في المدن، وعجز عن إقناعهم بالعكس، ويتمنى كثيرون لو كان أكثر مرونة. وربما تكون الرسالة وصلته. ففي الكلمة التي ألقاها وهو يعلن نتائج الاستفتاء كان رحب الصدر، رفض أن يصور النتائج انتصارا لحزب واحد، بل قال إنها انتصار لتركيا، ووعد بالتحرك نحو المزيد من التعديلات الدستورية، وإنه في المرة الثانية سيبحث عن إجماع مع أحزاب المعارضة. وهذا اعتراف من أردوغان بأن الحملة التي سبقت الاستفتاء لم تكن الطريقة الفضلى لتحقيق تغييرات مهمة.

إن النظام القضائي التركي معقد أصلا، وضع عندما أنشئت الجمهورية. وتُعتبر المحكمة الدستورية حارسة الجمهورية العلمانية. وفي السنوات الثماني الماضية كان laquo;حزب العدالة والتنميةraquo; في الحكم، وبصفته حزبا إسلاميا يقول إنه من حق الناس أن يكونوا أحرارا في التعبير عن توجههم الديني، وإذا أرادت المرأة وضع الحجاب فهذا من حقها (الحجاب ممنوع في مؤسسات الدولة وأردوغان ركز في حملته ضد هذا المنع).

العلمانيون رأوا في الاستفتاء بداية إبعاد العلمانية عن الدولة، واتهمت المعارضة الحكومة بأنها ستتحكم بالقضاء، وهذا يكشف عن عدم الثقة العميق والانقسام القوي بين العلمانيين والمتدينين.

في اتصال مع النائب في laquo;حزب الشعب الجمهوريraquo; أونور أيمن قال إن حزبه يؤيد 24 من أصل 26 بندا في الاستفتاء، والبندان الباقيان سيضران بالمجتمع الديمقراطي وبدور السلطة التشريعية والقضائية. وأضاف أن الحزب طلب من الحكومة طرح هذين البندين فقط على الاستفتاء، لكنها أصرت على وضعهما في حزمة واحدة مع بقية البنود. وأضاف: laquo;طبعا لا يمكننا تغيير هذين البندين إلا إذا وصلنا إلى السلطة، عندها سنقترح على الرأي العام التركي وضع مسودة كاملة لدستور جديدraquo;.

يعتقد الأتراك أن السلطة القضائية آخر معقل قوة للمؤسسة العسكرية، وأن الجيش يريد السيطرة على هذه السلطة ليضمن علمانية الدولة.

يعتبر الجيش التركي ثاني أكبر جيش في دول الحلف الأطلسي بعد الولايات المتحدة، لكن في الفترة الأخيرة لوحظ أنه انسحب من التعاطي بالسياسة، وهناك اعتراف من قبل الجنرالات الأتراك بأنه لم يعد باستطاعتهم التدخل في السياسة، كما كانوا يفعلون في السابق.

تعرضت المؤسسة العسكرية للكثير من النقد، والمحاكمات بحق بعض ضباط الجيش مستمرة لاتهامهم بمحاولات زعزعة حكومة أردوغان. وأمام قلة الخيارات، تبقى مواجهة laquo;حزب العمال الكردستانيraquo; همه الأول ويمكن للجيش لاحقا أن يتهم سياسة الحكومة تجاه الأكراد بأنها تعرض البلاد للخطر.

لكن لوحظ أن الاستفتاء لم يتضمن بندا يلبي طموحات الأكراد، على الرغم من أن أردوغان أعلن سابقا أنه سيجعل طلبات الأكراد أساسية في الاستفتاء، (الأحزاب الكردية قاطعت المشاركة في الاستفتاء). جرت محاولة في بداية هذا العام كي يتضمن الاستفتاء تغييرا في قوانين الأحزاب، فالقانون التركي يسمح فقط للأحزاب التي تنال 10% من الأصوات أن تتمثل في البرلمان، وفي تاريخها لم تحصل الأحزاب الكردية على أكثر من 8 إلى 9%، وهذا يحرمها من أن يكون لها وجود في البرلمان، ثم إن الأحزاب الممثلة في البرلمان تستطيع أن تشارك في القرارات التي تُتخذ لحل ومنع الأحزاب. ولهذا فإن الأحزاب الكردية تُمنع بصورة روتينية عبر قرارات تصدر من المحكمة. كان الأهم للأكراد أن يكونوا ممثلين في البرلمان، وأن يتضمن الاستفتاء خطوات تتعلق بحقوقهم الإنسانية. لكن الاستفتاء تجاهلهم كليا. قد يكون السبب أن أردوغان دفع إلى معاملة أفضل للأكراد في مبادرة سماها laquo;المبادرة الكردية الكبرىraquo;، لكنه ووجه بمعارضة laquo;تركية وطنيةraquo; ضخمة، أخافته واضطرته إلى التراجع. لكن، قد يشعر laquo;حزب العمال الكردستانيraquo;، أن الاستفتاء منح قيادة laquo;حزب العدالة والتنميةraquo; سيطرة سياسية أكبر، فيختاره كمحاور له، في مواجهة المؤسسة العسكرية. المهم أن ينجح الحزب الحاكم في تمديد وقف إطلاق النار مع الأكراد الذي سينتهي مفعوله في العشرين من الشهر الجاري.

لكن، ماذا تعني نتائج الاستفتاء للعالم خصوصا للمجموعة الأوروبية؟ أوروبا رحبت بالنتائج لكنها دعت إلى إصلاحات ضرورية أخرى تتعلق بحرية التعبير والممارسات الدينية، وعبرت عن ارتياحها لأن الإصلاحات تتعلق بالسلطة القضائية وتقضي على سلطة العسكر. لكن المجموعة الأوروبية لن تقبل تركيا كعضو فاعل فيها، هناك معارضة قوية من فرنسا، والأتراك تعبوا من الجدار الأوروبي المسدود.

يقول الأوروبيون إنهم دعموا تركيا العلمانية، إذا انضمت ستكون من أكبر الدول الأوروبية وذات وزن كبير بسبب عدد سكانها (70 مليونا) حيث الأغلبية منهم فلاحون وليسوا من أبناء المدن، وهذا يمثل كل أنواع المشكلات، وبدأ الأوروبيون يعانون من مشكلات دول أصغر مثل رومانيا وبلغاريا، كما بدأت دول أوروبية تراجع التفكير (خصوصا فرنسا) فيما إذا كان من الأفضل للمجموعة أن تصبح كبيرة جدا.

في النهاية، قد لا تعني نتائج الاستفتاء الكثير حتى لتركيا ولطريقة حكمها حيث يشير الكثيرون إلى أن المشكلة ليست في الدستور إنما في طريقة تطبيقه. وإذا لم يكن هناك تغيير جذري في عقلية الشرطة والقضاة، فإن الأمور لا تتغير في بلاد دأبت منذ عقود على سجن رؤساء تحرير الصحف بسبب ما يكتبون. هذه الإصلاحات كان يمكن أن تكون أكثر جرأة وقوة لو أن أردوغان كان قادرا، كما خطط مرة، على إعادة كتابة الدستور التركي، وأجرى نقاشا حقيقيا مع كل الأحزاب. ولكن بصراحة لم يُقدم على هذه المغامرة؛ لكنه قد يضطر قبل الانتخابات إلى تقديم مبادرات للأحزاب العلمانية من أجل أن يهمش المتشددين من علمانيين ومتدينين.