شتيوي الغيثي
تتمثل أزمة العالم الإسلامي، وأخص المسلمين القاطنين في الدول الغربية، في عدم التعايش والانسجام مع المعطيات المدنية الحديثة التي بُنيت عليها معظم الدول الغربية
العالم اليوم يكاد يكون صراعاً بين عدد من أقطاب التطرف المتنافرة من جميع الأديان والمذاهب، حتى إنه يمكن أن تقوض هذه الأقطاب جميع مساعي التعايش ودعوات التسامح بين الأديان جميعها، أو بين المذاهب فيما بين بعضها البعض. والعالم الإسلامي اليوم يعيش أكثر عصوره تأزماً بين قبول الآخر سواء كان من الآخر الإسلامي المختلف أو كان الآخر غير الإسلامي من ديانات العالم المتعددة. ولعل أكثر الأزمات التي يعيشها العالم الإسلامي هي مع الجهة الغربية من العالم تحديدا للتماس القديم بين الثقافة الغربية بكل أديانها ونظرياتها وعلومها الحديثة، وبين الثقافة العربية أو الإسلامية المتقوقعة على ذاتها منذ أكثر من القرنين تقريباً.
تتمثل أزمة الذات الإسلامية والعربية من الآخر في الموقف الرافض والمناهض للآخر مهما كان حتى لو كانت القيم التي يحاول تبنيها الآخر تصب في صالح الذات الإسلامية كما هي فكرة التسامح أو التعايش بين الأديان والمذاهب والثقافات المختلفة على اعتبار حق الآخر في اختلافه نوعا من التعددية الفكرية والثقافية التي أصبحت فكرة رائجة جداً منذ أفكار ما بعد الحداثة، وازدادت أهمية أطروحات التسامح والتعايش بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر سواء في الجانب الغربي أو في الجانب الإسلامي.
كما تتمثل أزمة العالم الإسلامي والعربي من جهة أخرى في عدم قبول الآخر للذات الإسلامية في بعض الشعوب التي تناهض الوجود الإسلامي في الغرب، أو تدعو إلى تبني وجهات النظر المستفزة للوجدان الجمعي الإسلامي بحيث تستقصد بعض الرموز الدينية المعتبرة لدى المسلمين كأزمة الحجاب في فرنسا مثلاً.
من جهة ثالثة، تتمثل أزمة العالم الإسلامي، لاسيما المسلمين القاطنين في الدول الغربية، في عدم التعايش والانسجام مع المعطيات المدنية الحديثة التي بُنيت عليها معظم الدول الغربية؛ كقيم العلمنة والديموقراطية وحرية التعبير والنقد، بحيث يظنون أن نقد الظاهرة الإسلامية هي نقد للإسلام ذاته، أو عدم قبول مظاهر الحريات الشخصية، واحترام ثقافة الشعب المستضيف التي تأسس على مثل هذه الحريات.
في الداخل الإسلامي تكمن أزمة الذات مع ذاتها الإسلامية، أو بعبارة أخرى، مع الآخر المختلف بين الذوات الإسلامية المتعددة، كالمذاهب أو الأقاليم أو الأعراق المختلفة داخل الطيف الإسلامي، والتطرف بين تمثلات الطيف الإسلامي يوازي التطرف المضاد من خارج المنظومة الإسلامية من الأديان الأخرى ويصل التطرف أحيانا إلى نوع من التماس المسلح بين مختلف المذاهب الإسلامية كما حصل في العراق أو الشتائم المتبادلة بين بعض رموز تلك الأطرف، بل تكاد رموز التسامح من داخل منظومة المذاهب لا تساوي شيئا عند رموز التطرف، ويبقى العالم الإسلامي يصارع في أكثر من مكان، وفي أكثر من قضية، فضلاً عن صراع العالم الإسلامي مع ذاته وأطيافه المختلفة، وهنا تضيع مشاريع التسامح وأطروحات التعايش سدى.
خلال الأسابيع القليلة الماضية كان عموم المسلمين في اختبار حقيقي في تأزمات الذات وتأزمات الآخر وموقف الذات من ذاتها المختلفة، وموقفها من الآخر أو ردة فعلها على مواقف مضادة من قبل الآخر. كان أحد القساوسة في أمريكا يرفع من وتيرة الكراهية تجاه المسلمين في الداخل الأمريكي أو أولئك الذين هم خارج أمريكا من المسلمين في أصقاع المعمورة، بحيث يحاول استفزازهم في أقدس المقدسات لديهم وهو إعلانه عن حرق القرآن الكريم على مرأى من العالم الإسلامي جميعاً كرد فعل متطرف على تطرف بعض أبناء المسلمين الذين قاموا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر. في مكان آخر، ومن داخل الطيف الإسلامي خرج بعض من متطرفي الطائفة الشيعية واحتفلوا بشتم السيدة عائشة أم المؤمنين، ويصفونها بأقذر الأوصاف التي توصف بها امرأة في العالم، فما بالك بامرأة لها اعتبار في الوجدان الإسلامي!
هذان التصرفان : القس الداعي لإحراق المصحف، والمتطرفون الشاتمون لأم المؤمنين، أثار حفيظة المسلمين على مختلف أطيافهم، وهما بلا شك، موقفان ينمان عن رؤية متطرفة من قبل هؤلاء حيث يتم استفزاز مشاعر الآخر الذي لا يدين بالديانة التي يؤمن بها أولئك، سواء على مستوى الديانات الكبرى، أم على مستوى المذهبيات الصغرى.
طبعا كان الرد السريع من قبل الأمريكيين: الشعبي والرسمي، هو مناهضة وإدانة العمل الذي يريد القيام به ذلك القس، وخرجت بيانات تصف ذلك العمل بالمشين، كما أن أوباما نفسه وقف ضد هذا العمل حتى تم إيقاف هذا القس عن محاولته مما يشي بإيمان من قبل الشعب الأمريكي بأهمية احترام الأديان أكاد ازعم أنها في صلب الثقافة الأمريكية. كما خرج علماء كبار من علماء الشيعة ببيان مناهض ورافض لما قام به أولئك الذين قاموا بشتم السيدة عائشة، مما يشي هو الآخر برؤية تسامحية واعتدال فكري وديني من قبل هؤلاء المشايخ الشيعة، وأكاد اجزم أيضا أنها من صميم الثقافة الذي يحملها هؤلاء المشايخ من الشيعة.
في المقابل هناك من أبناء المسلمين من يقف موقفا متطرفا من الآخر الغربي عموماً بحيث تحمل الثقافة الغربية كلها فعلا واحدا من المتطرفين حتى يصبح موقف ذلك القس هو موقف كل الغربيين من الدين الإسلامي، حتى ليعتبر أي مشروع للتحديث هي مشاريع غربية تكون من صالح السياسات الغربية داخل البلد المسلم، كما يشكك بعض أبناء السنة في نوايا المشايخ الشيعة الذين أصدروا ذلك البيان المدين، أو يصدرون بيانات أخرى لتأصيل قيمة التسامح أو التعايش المذهبي، وهما موقفان متطرفان من قبل أبناء المسلمين تجاه الأخوة الإنسانية لدى الأمم الأخرى، أو من قبل أبناء السنة تجاه الأخوة الدينية لدى المذاهب الأخرى.
إن الصراع بين أشكال التطرف سوف يقود إلى احتراب ثقافي، هذا إذا لم يصل حد الاحتراب المسلح بين الثقافات على اختلاف مشاربها، وهو صراع ثمنه باهظ جداً، وما دام العقلاء لا يقفون موقفاً صارماً من أشكال التطرف هذه؛ فإننا لا نستبعد أن مظاهر أخرى سوف تتكرر متى ما سنح الوقت بذلك.
التعليقات