عبد العظيم حنفي


يعاني الوطن العربي من ظاهرة الأقليات التي وصلت إلى مرحلة خطيرة تهدد أمن العديد من أقطاره واستقراره، وهذه الظاهرة هي -بلا شك- انعكاس لتعدد الهويات والانتماءات. ولا شك -كذلك- أن ثراء المنطقة العربية بجماعاتها الثقافية فرض التمييز بينها استنادا إلى معايير شتى وفي مقدمتها معيار الدين واللغة، وتفاقمت خطورة هذه الظاهرة نتيجة عمليات الفصل والتجزئة التي مارسها الاستعمار الغربي في المجتمعات العربية، واستغلاله العديد من الجماعات الطائفية والعرقية من خلال منحها امتيازات خاصة أصبحت بمثابة الحقوق المكتسبة التي تسعى هذه الجماعات للحفاظ عليها، وزاد من حدة المعضلة عدم سعي النظم السياسية العربية إلى الحكم على أساس المشاركة التي تأخذ في الاعتبار فئات المجتمع كافة، الأمر الذي زاد من مخاوف الأقليات في تلك النظم ودعا بعضها إلى التمرد على أوضاعها.
وقد لاحظنا أن النظم السياسية العربية فشلت في توحيد الوطن العربي في دولة قومية واحدة، بنفس الدرجة التي لم تنجح فيها الجهود حتى في توحيد جزء من أقطار الوطن العربي؛ لأن الفكر القومي لم يتناول عدة مسائل حيوية في الواقع العربي وهي ذات تأثير كبير على توحيد أقطاره ومنها موضوع الأقليات.
فرغم أن %85 من سكان الوطن العربي يشكلون مجموعة متجانسة لغويا ودينيا وثقافيا؛ إلا أن هناك عدة تكوينات بشرية تختلف عن هذه المجموعة سواء في الدين واللغة والسلالة والثقافة. والفكر القومي لم يتعرض للدور الاجتماعي لهذه الأقليات بشكل متعمق ولم يحاول التعرف على مشكلاتها وهمومها، ولم يأخذ موقفا صريحا من رغباتها المشروعة في الحفاظ على تكاملها، كما لم تنجح النظم العربية التي تعاني من تلك الظاهرة في التوصل إلى أشكال ملائمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع (بتكويناته الإثنية المتعددة) حيث ظلت هذه الظاهرة موضع شد وجذب بين الجانبين بكل ما يترتب في أحيان كثيرة على هذه التوترات من انتكاسات سلبية على الاستقرار السياسي والأمن القومي، ففي دولة البحرين التي تعاني من انقسام طائفي بين سنة وشيعة، وانقسام طبقي على أسس طائفية يشكل السكان من ذوي الأصول العربية نحو %95 من إجمالي السكان كما أنهم مسلمون، وفي السودان هناك تنوع إثني كبير، فهناك تعدد ديني بين مسلمين ومسيحيين ووثنيين، وهناك نحو 597 قبيلة و57 جماعة عرقية، وتعدد لغوي يربو على 400 لغة ولهجة مختلفة، ويصفه البعض بأنه نموذج مصغر لكل القارة الإفريقية، وقد انعكس ذلك بوضوح في الانقسام بين مواقف القوى الجنوبية وبين الحكومة المركزية.
وهناك نماذج أخرى في المنطقة العربية، إلا أن الجامع بين كل تلك الحالات -مع اختلاف الدرجة- أن أبناء الأقليات في المنطقة العربية يحملون أنظمتهم السياسية مسؤولية تعميق شقة الخلافات والانقسامات القائمة بين الجماعات المختلفة فيها وقيامها باتباع أسلوب سلطوي في استيعاب أقلياتها، وفرض الاندماج عليها بالقوة، مع وجود قناعة لدى النخب الحاكمة العربية بضرورة التلازم بين الإجماع السياسي من ناحية والإجماع الفكري والديني من ناحية أخرى، وبالتالي رفض الاعتراف بالتنوع والتعددية القائمة في مجتمعاتها.
وقد ترجمت هذه النخب قناعاتها تلك في أساليب معالجتها لمعضلة الأقليات من خلال اتباعها سياسات الاعتقال والنفي، وإعادة التوطين خارج نطاق التمركز الجغرافي للأقليات، والتضييق الثقافي والاقتصادي عليها، والحد من تمثيلها في مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية والأمنية، وتفضيلها لخيار القوة المسلحة باعتباره الحل الحاسم والسريع لهذه المشكلات.
وقد نتج عن تلك الممارسات بروز النزعات الانفصالية لدى الأقليات في بعض المناطق العربية، واستخدامها أساليب العنف والقوة لتغيير الأنظمة السياسية القائمة، الأمر الذي أدى إلى إطالة أمد النزاع والحيلولة دون التوصل إلى رؤية مشتركة لطبيعة العلاقة بين الجماعة المسيطرة والأقلية، وقد لاحظ عدد من المحللين أن ظاهرة الأقليات في المنطقة العربية تتفاقم في الدول العربية التي تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي يشكل ملتقًى لخطوط المواصلات الدولية، سواء في منطقة الخليج كما في حالة البحرين، أو في إفريقيا كما في حالة السودان، وشكل ذلك العامل الجغرافي علاوة على العوامل الأخرى دافعاً للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية لتلك الدول تحت مبررات عديدة منها حق الدفاع عن الأقليات، وربما كان لمساحة القُطر العربي أثر بارز على طبيعة مطالب الأقليات، حيث شكلت المساحة الشاسعة للسودان ووجود الأقليات في أقاليم محددة نسبيا إلى بروز العديد من الدعوات لإعادة النظر في توزيع السلطة تبدأ بأشكال المطالبة بالحكم الذاتي وتمر بالفيدرالية وتنتهي بالانفصال.
وفي المقابل شكلت المساحة الضيقة لدولة مثل البحرين قيدا على طبيعة المطالب التي تقدمها الطائفة الشيعية، حيث ركزت على الدعوة للإصلاح السياسي والاقتصادي وفتح باب المشاركة السياسية والتعددية أمام فئات المجتمع، والمساواة في توزيع الموارد السياسية والاقتصادية، ولم تبرز أية دعوة إلى تبني مشاريع الحكم الذاتي أو الانفصال لعدم قابلية هذه المشاريع للتنفيذ.
ورغم أن حالة السودان هي الحالة الأوضح في التعدد والتنوع؛ إلا أن هذا لا يعني شيئا في حد ذاته، أو تقطع يقينا بأن هذا التنوع هو بالضرورة ابتلاء للسودان، بل على العكس فإنه في التاريخ السوداني ما يشهد بأن هذا التنوع والتعدد كان أحيانا عنصر إثراء وإغناء، ففي ظل مملكة الفنج في سنار (في الثامن عشر) تجسد التعايش السلمي بين الإسلام والوثنية، لاسيَّما أن حكام سنار (المسلمين) كانوا من أصول قبلية زنجية وثنية، وأكثر من ذلك فإن أحد جوانب المعضلة الجنوبية السودانية تنبعث من الجهل بخصوصية الديانات الإفريقية إسلامية كانت أو مسيحية، وهي الخصوصية التي تؤمن بمبدأ التفاعل الإيجابي السمح بين عناصرها بعضها البعض، فتمكّن مسيحياً من تولي سلطة الحكم في بلد مسلم (ليبولد سنغور في السنغال) مثلما تدفع رئيسا كاثوليكيا لدولة مسيحية للتنازل عن السلطة لخلف مسلم (الرئيس جوليوس نيريري في تنزانيا). لكن بقصور في فهم ظاهرة التنوع الثقافي في السودان والاستجابة لمقتضياتها، تعاملت النخبة المثقفة عموما وتلك الحاكمة منها خصوصا مع مفردات هذا التنوع على أساس الازدراء، فهي تشير للمتمردين بـ laquo;العبيدraquo; أو laquo;الفروخraquo; الطامحين لحكم البلاد، وتتعامل مع أهل دارفور على أنهم laquo;غرابةraquo; أي غرباء وتطلق على جماعاتهم التي تلف العاصمة laquo;الحزام الأسودraquo; وبذلك لا عجب أن أصبح شرق البلاد وغربها وجنوبها عبئا ثقيلا على كل الحكومات السودانية المتعاقبة منذ الاستقلال وحتى الآن، وإن كان الجنوب هو الأسوأ.
وما ينطبق على السودان قد يصبح عبرة لأقطار عربية أخرى تستهين بالتنوع والتعدد داخل بلدانها ليصبح مصدر قلاقل وتوتر.